Tuesday, June 23, 2015

إستراتيجية إسرائيل لمواجهة حقبة ما بعد الأسد

صالح النعامي


Link


الردع المرشح للانهيار
مخاوف من الاستنزاف
تهديد العمق الصهيوني 
سبل المواجهة

تبدي دوائر صنع القرار في تل أبيب قلقا كبيرا إزاء التحولات المتلاحقة في سوريا، والتي تعكس تغيرا في موازين القوى لصالح قوى المعارضة المسلحة وتراجع قوات نظام الأسد في معظم الجبهات.

وتنطلق محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب من افتراض مفاده أنه في ظل الوتيرة الحالية لتقدم قوى المعارضة وتراجع قوات الأسد، فإن سقوط النظام بات محتما. ولا خلاف بين دوائر صنع القرار في تل أبيب على أن سقوط نظام الأسد سيمثل تحولا جذريا على البيئة الإقليمية للكيان الصهيوني، سيفضي إلى إجبار تل أبيب على استثمار طاقات هائلة لمواجهة المخاطر الناجمة عنه وتقليصها.

ونظرا لخطورة التحولات المتلاحقة، فقد برزت أصوات داخل محافل صنع القرار الصهيوني تدعو صراحة للتدخل بشكل مباشر في الصراع، في مسعى لتأمين المصالح الإسرائيلية قبل سقوط النظام. فقد دعا نائب وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي أيوب قرا إلى الإسراع بتوجيه ضربات استباقية لما أسماها "التنظيمات الإسلامية" العاملة ضد الأسد، محذرا من أن عدم الإقدام على هذه الخطوة يعني التسليم بسقوط المئات من قذائف الكاتيوشا على مستوطنات الجليل وشمال الكيان الصهيوني (موقع وللا، 16-5).

الردع المرشح للانهيار
"تنطلق محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب من افتراض مفاده أنه في ظل الوتيرة الحالية لتقدم المعارضة وتراجع قوات الأسد، فإن سقوط النظام بات محتما. ولا خلاف بين دوائر صنع القرار أن سقوط نظام الأسد سيمثل تحولا جذريا على البيئة الإقليمية لإسرائيل"
لقد أجمعت النخب الصهيونية السياسية والأمنية الفكرية التي حذرت من تبعات سقوط نظام الأسد، على أن غياب هذا النظام يعني نهاية حقبة الهدوء الطويلة التي شهدتها الحدود منذ انتهاء حرب 1973. وكما قال الجنرال دان حالوتس، الرئيس الأسبق لهيئة أركان الجيش الصهيوني، فإن أحد أهم أسباب ارتياح إسرائيل لحكم عائلة الأسد في سوريا حقيقة أن هذا الحكم استجاب بشكل "مثالي" لإستراتيجية الردع الإسرائيلية، حيث لم يضمن فقط الهدوء على جانبي الحدود، بل غض الطرف عن الهجمات التي شنتها إسرائيل على الأراضي السورية (معاريف، 5-3).

وفي المقابل، ووفق التقديرات الإستراتيجية الإسرائيلية، فإن إستراتيجية الردع لن تترك أثرا على التنظيمات الإسلامية التي ستحتكر جزءا مهما من التأثير على الواقع السوري بعد زوال النظام. وحسب المنطق الإسرائيلي، فإنه يكاد يكون من المستحيل ممارسة الردع ضد التنظيمات الإسلامية لأنها في الغالب لا تكون مسؤولة عن مرافق دولة، بالإمكان استهدافها من أجل قهر إرادة القتال لديها، ناهيك عن أن بعض هذه التنظيمات لا تحتكم عادة للاعتبارات "العقلانية" التي تأخذ بعين الاعتبار معايير الربح والخسار المادي والآني. 

وفي حال غاب تأثير الردع أو بهت، فإن هذا يعني أن الجيش الصهيوني سيكون مطالبا بتكثيف جهده الحربي على طول الحدود وفي عمق الأراضي السورية لضمان الهدوء، مع كل ما يتطلبه الأمر من توفير إمكانيات عسكرية وبشرية، وما قد يسفر عنه من خسائر، ناهيك عن أنه قد يوفر ذريعة لاستهداف العمق الإسرائيلي كرد على هذه العمليات. 

إن أكثر ما يدلل على تحوط إسرائيل المسبق لمواجهة التنظيمات الجهادية حتى قبل سقوط نظام الأسد، هو ما كشف عنه التحقيق الذي نشرته صحيفة "ميكور ريشون" بتاريخ 21 أبريل/نيسان، والذي أظهر أن إسرائيل استثمرت مئات الملايين من الدولارات في تأمين المستوطنات المقامة في أرجاء هضبة الجولان، علاوة على استثمار مؤسسات الكيان الصهيوني المختلفة جهودا كبيرة في إعداد المستوطنين نفسيا لمواجهة تبعات المرحلة المقبلة. 


مخاوف من الاستنزاف
هناك ثلاثة أسباب تجعل من مواجهة التنظيمات الإسلامية في سوريا بعد زوال الأسد وصفة لاستنزاف القدرات العسكرية والبشرية للجيش الإسرائيلي، وهي:

أولا: العدد الكبير نسبيا للتنظيمات الإسلامية وانتشارها على بقعة جغرافيا واسعة جدا (سوريا والعراق)، يجعل من الصعب بمكان الحصول على معلومات استخبارية يمكن توظيفها في توجيه ضربات لهذه التنظيمات، علاوة على أن الانتشار الواسع لهذه التنظيمات يتطلب بذل جهد حربي كبير ومتواصل لتعقبها.

ثانيا: تمثل القدرات القتالية العالية لعناصر التنظيمات المنخرطة في الثورة السورية بحد ذاتها تحديا كبيرا للجيش الإسرائيلي. ويكفي هناك الوقوف على الاستنتاجات التي ولج إليها البرفسور حاييم آسا، الذي يعد من أبرز "آباء" الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي، والجنرال يديديا يعاري القائد الأسبق لسلاح البحرية، حيث اعتبرا أن مقاتلي التنظيمات الإسلامية هم أكثر المقاتلين في العالم خبرة، مما يزيد من تحدي مواجهتهم. وفي كتابهما "العقيدة القتالية الجديدة ومبادئ المناورة المشتتة"، الصادر حديثا، يحذر آسا ويعاري من أن مواجهة المقاتلين الإسلاميين تفرض على الجيش الإسرائيلي تغيير عقيدته القتالية بشكل جذري.

ثالثا: تخشى إسرائيل أن تتحول المواجهة مع التنظيمات الإسلامية في سوريا مستقبلا إلى عامل لجذب المزيد من الشباب المسلم من جميع أرجاء العالم للانخراط فيها أو توظيفها في تبرير استهداف مصالح إسرائيلية ويهودية في جميع أرجاء العالم.


تهديد العمق الصهيوني 

"تخشى إسرائيل أن تتحول المواجهة مع التنظيمات الإسلامية في سوريا مستقبلا إلى عامل لجذب المزيد من الشباب المسلم من جميع أرجاء العالم للانخراط فيها، أو توظيفها في تبرير استهداف مصالح إسرائيلية ويهودية في جميع أرجاء العالم"
إن أكثر ما يثير الفزع الإسرائيلي من تبعات مواجهة مع الإسلاميين في سوريا، هو أن مخازن السلاح والمنظومات الصاروخية التي سيسيطرون على جزء كبير منها بعد سقوط نظام الأسد تمكنهم من استهداف أي مكان وأي هدف داخل الكيان الصهيوني، بدءا من "رأس الناقورة" في أقصى الشمال وحتى "إيلات" في أقصى الجنوب. 

وتمتاز المنظومات الصاروخية السورية بأنها ليست فقط طويلة المدى، بل قادرة على حمل رؤوس متفجرة كبيرة يتراوح وزنها من 250 كلغم إلى طن، وهذا ما يجعل قدرتها التدميرية هائلة جدا، ناهيك عن أن هذه الصواريخ تمتاز بدقة إصابة كبيرة جدا، إلى جانب أنه من الصعب على المنظومات الإسرائيلية المضادة للصواريخ -مثل "القبة الحديدية"- التصدي لها. 

ولا خلاف في إسرائيل على أن البنى التحتية المهمة والمرافق الحساسة ستكون في بؤرة الاستهداف، مع الأخذ بعين الاعتبار أن استهداف العمق الصهيوني من قبل الإسلاميين لن يواجه باعتراض دولي كبير في حال تم تبريره على أنه رد على قيام إسرائيل بعمليات قصف داخل سوريا، كما تتصرف في العامين الماضيين.

بالنسبة لإسرائيل، فإن تبعات سقوط الأسد الكارثية لا تقتصر على مجريات الأمور داخل سوريا، بل خارجها أيضا. ويعبر الصهاينة بشكل صريح عن مخاوف من إمكانية أن يفضي التمكين للحركات الجهادية في سوريا إلى المس باستقرار النظام الأردني، الذي يعد أحد أهم ضمانات "الأمن القومي" الإسرائيلي، على اعتبار أن هذا النظام يجعل من المستحيل ولادة جبهة شرقية ضد إسرائيل. 

في الوقت ذاته، فإن نخب الحكم في تل أبيب متأكدة من أن انهيار النظام سيسمح لقوى إقليمية غير مريحة -مثل تركيا- للعمل داخل سوريا. ومما لا شك فيه أن أكثر مظاهر التحول على البيئة الإقليمية التي تثير قلق إسرائيل هو التعاون التركي السعودي الذي أسهم في تغيير موازين القوى لصالح المعارضة المسلحة. وتجاهر النخب الإسرائيلية بالتعبير عن خشيتها أن يؤسس التعاون التركي السعودي في سوريا لمحور سني غير مريح لإسرائيل، يمكن أن يستقطب أطرافا أخرى.


سبل المواجهة
من خلال الجدل الدائر في إسرائيل حول سبل مواجهة تبعات سقوط نظام الأسد المتوقع، يمكن القول إن الإستراتيجية التي شرعت إسرائيل في اتباعها لتحقيق هذا الهدف تقوم على التالي:

1- بناء بنك أهداف شامل يتضمن الذخر البشري للتنظيمات الإسلامية وقياداتها ومرافقها ومخازن سلاحها التي يتوجب ضربها، وذلك عبر تكثيف عمليات جمع المعلومات الاستخبارية، سواء عبر تجنيد المصادر البشرية أو من خلال توظيف الإمكانيات التقنية. وقد كشفت صحيفة "يسرائيل هيوم" في عددها الصادر بتاريخ 29 مايو/أيار النقاب عن أن الشغل الشاغل للاستخبارات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة هو جمع معلومات تساعد على بناء بنك الأهداف هذا.
"يمكن أن تقدم إسرائيل على توجيه ضربات استباقية لتقليص حجم الأضرار الناجمة عن سقوط الأسد، مثل التوسع في تدمير مخازن السلاح والصواريخ التي تعود للنظام خشية وقوعها في يد الثوار، أو من خلال توجيه ضربات لبعض التنظيمات المقاتلة"
2- يمكن أن تقدم إسرائيل على توجيه ضربات استباقية لتقليص حجم الأضرار الناجمة عن سقوط الأسد، مثل التوسع في تدمير مخازن السلاح والصواريخ التي تعود للنظام خشية وقوعها في يد الثوار، أو من خلال توجيه ضربات لبعض التنظيمات المقاتلة، كما يدعو لذلك بشكل صريح نائب الوزير الصهيوني أيوب قرا.

3- إدخال تغييرات جذرية على العقيدة القتالية للجيش تأخذ بعين الاعتبار سمات التنظيمات المقاتلة العاملة في الساحة السورية. ويمكن الافتراض أن الجيش سيتبنى عقيدة "القتال الموزع" التي تقوم على توظيف وحدات صغيرة لتنفيذ هجمات كثيرة في زمن واحد. ومما لا شك فيه أن هذا التغيير يتطلب إدخال تعديلات جوهرية على سلم الأولويات بالنسبة للجيش الإسرائيلي، بحيث يتم التوسع في تشكيل الوحدات الخاصة المقاتلة المحمولة جوا أو بحرا.

4- التراجع عن التوجه العام القائم على تقليص الاعتماد على قوات الاحتياط في أداء الجهد الحربي، حيث إن الواقع الجديد يفرض زيادة الاعتماد على قوات الاحتياط في أداء المهام العسكرية الاعتيادية التي تقوم بها القوات النظامية، مثل تأمين الحدود ومواجهة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

5- إعداد الرأي العام الإسرائيلي معنويا ونفسيا للمرحلة الجديدة من خلال إقناعه بضرورة تقبل التعايش في ظل تعاظم المخاطر الأمنية، على اعتبار أن هذه المخاطر نتاج تطورات ليس لإسرائيل القدرة على السيطرة عليها.

إن استثمار إسرائيل كل هذه الطاقات في التحوط لمرحلة ما بعد نظام الأسد يدلل على الدور الذي تلعبه أنظمة الاستبداد في تحسين البيئة الأمنية والإستراتيجية والإقليمية للكيان الصهيوني، وهذا سبب إضافي يبرز أهمية التخلص منها.

No comments: