حماس ومأزق التطرف
عبد الباري عطوان
"ربما تكون حركة 'حماس' نجحت في القضاء على تنظيم 'جند انصار الله'، وتصفية زعيمه عبد اللطيف موسى بعد اقتحام مسجده في جنوب مدينة رفح قرب الحدود مع مصر، ولكن هذا النجاح قد يكون مكلفا للغاية بالنسبة الى الحركة وصورتها في بعض الاوساط الاسلامية، داخل الاراضي المحتلة وخارجها.
فاقتحام مسجد، واطلاق النار على الذين تحصنوا فيه، لم يكونا خطوة حكيمة، لما للمساجد من حرمة في العقيدة الاسلامية، وكان من الاجدى اتباع اساليب اخرى، مثل حصاره، والتفاوض مع المحتمين فيه من اجل الوصول الى تسوية سلمية حقنا للدماء، وقطعا لدابر الفتنة، وترك مسألة الاقتحام هذه كخيار اخير، بعد نفاد كل الوساطات، ووصول المفاوضات الى طريق مسدود.
ندرك جيدا ان الغلو في التطرف ليس امرا محمودا، لما يمكن ان يترتب عليه من خلافات وربما صدامات بين ابناء العقيدة الواحدة، والخندق الواحد. كما ان اعلان قيام امارة اسلامية في منطقة صغيرة، في قطاع صغير محاصر، تحكمه حركة مقاومة اسلامية ينطوي على تسرع وقراءة غير دقيقة لمجريات الاوضاع على الارض، ولكن هذا لا يعني استخدام القوة، وبمثل هذه الشراسة، للتعاطي مع هذه المسألة، مما يؤدي الى مقتل 24 شخصا واصابة 150 آخرين بصورة اثارة حالة من الابتهاج في صفوف الشامتين بالاسلاميين، وحركة 'حماس' على وجه الخصوص، وما اكثرهم هذه الايام.
الشيخ عبد اللطيف موسى يصفه معارفه بأنه رجل تقي مؤمن، يتمتع بخلق حميد، وسخر حياته في خدمة الدعوة الاسلامية ومساعدة الفقراء من موقعه كطبيب للاسرة، وكان من ابرز المؤيدين لحركة 'حماس' والمعارضين للسلطة الفلسطينية ورموز فسادها اثناء سيطرتها على قطاع غزة، وكنا نتمنى لو ان الناطقين باسم حركة 'حماس' قد ابتعدوا عن محاولات تشويه صورته، بالقول بانه رأس حربة لسلطة رام الله، ويتلقى اموالا منها، وما يزيد من مرارة هذه الاتهامات انها صدرت بعد انتقال الرجل الى الرفيق الاعلى، مما يتناقض كليا مع تعاليم الاسلام السمحة في التعفف في القول، وذكر محاسن الموتى، والاتقياء المجاهدين منهم على وجه الخصوص.
***
حركة 'حماس' باستخدامها القوة لانهاء هذه الظاهرة الاسلامية المتشددة التي حاولت شق عصا الطاعة على سلطتها في قطاع غزة أرادت توجيه اكثر من رسالة، الاولى للجماعات الاسلامية المتطرفة الأخرى التي تربت في رحمها، وتحت كنفها، تحذرها من خطورة اي خروج على هيمنتها، او محاولة خرق 'الهدنة' المعلنة مع الاحتلال، والثانية للعالم الخارجي، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، مفادها انها حركة وسطية معتدلة مستهدفة من قبل الحركات المتطرفة، وتنظيم 'القاعدة' وانصاره على وجه الخصوص، تماماً مثلها مثل العالم الغربي والأنظمة العربية المعتدلة.
فاللافت ان حركة 'حماس' تعطي هذه الأيام ثقلاً اكبر للحراك السياسي والدبلوماسي وتحاول ان تفتح حوارات مع عواصم غربية تقدم نفسها من خلالها كحركة سياسية براغماتية يمكن التوصل الى اتفاقات معها، وتوازي هذا الحراك مع تصريحات صحافية أكدت الاستعداد للقبول بدولة فلسطينية مستقلة في حدود الرابع من حزيران (يونيو) عام 1967 وفي اطار هدنة قد تمتد لعدة عقود.
العواصم الغربية ترحب بمثل هذه البراغماتية الحمساوية، وتشجع على الاستمرار فيها، تماماً مثلما شجعت منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها بالطريقة نفسها الى ان اوصلتها الى 'نبذ العنف' اي المقاومة باعتبارها 'ارهاباً' والاعتراف باسرائيل، والوقوع في مصيدة اوسلو، وبقية القصة معروفة.
فعندما تدخل حركة 'حماس' العملية السياسية وتخوض الانتخابات التشريعية والبلدية، وتتوج مسيرتها هذه بالسيطرة الكاملة على قطاع غزة، فانه عليها ان تتوقع قيام جماعات اسلامية متشددة تختار النهج الذي اختارته هي كرد على تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن الخيار العسكري لحساب الخيار التفاوضي.
نحن لا نقول ان حركة 'حماس' تخلت عن المقاومة نهائياً، وربما تكون هدنتها الحالية مؤقتة مثل هدنات سابقة، ولكن على قيادتها ان تدرك ان حبال صبر بعض الجماعات الاسلامية ليست طويلة، فهناك من يتعطش للجهاد حتى لو على ظهور الجياد.
نشرح أكثر ونقول ان حركة 'حماس' عبأت الآلاف من ابناء قطاع غزة والضفة الغربية بثقافة الشهادة، وفروضها وبنت جيشاً ضخماً من الاستشهاديين الذين يتسابقون للوقوف في الصف الأول لتفجير أحزمتهم الناسفة في أوساط الاسرائيليين طلبا للشهادة والذهاب الى الجنة عبر أقصر الطرق وأسرعها، ومن الطبيعي أن يشعر نسبة من هؤلاء بالاحباط من جراء الهدنة الحالية، والبحث عن منظمات جهادية أخرى تخرجهم من هذه الحالة وتحقق لهم آمالهم في الشهادة، ولهذا لم يكن غريبا أن يكون استشهاديون من عناصر كتائب القسام الجناح العسكري لحركة 'حماس' بين ضحايا جماعة 'أنصار جند الله'، وعلى رأس هؤلاء ابن شقيق الدكتور موسى ابو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة 'حماس'.
***
حركة 'حماس' مستهدفة، سواء بشكل مباشر من خلال الحصار الحالي المفروض عليها في قطاع غزة، والمؤامرات التي تستهدفها من رام الله او عواصم عربية وأجنبية عديدة، او غير مباشر من خلال القاء جزرة الاعتراف المشروط بها من قبل قوى عربية وأجنبية بهدف حرفها عن منطلقاتها العقائدية الاولى التي حققت لها الاغلبية في الانتخابات الاخيرة، وضرب الالتفاف الجماهيري الفلسطيني والعربي من حولها.
هذا الاستهداف يتطلب الحذر الشديد، وسد الذرائع والتصرف بحكمة متناهية، بعيدا عن القرارات والخطوات 'النزقة' 'المتعجلة'، التي قد تحل مشكلة، ولكنها قد تخلق عشر مشاكل جديدة، مثلما هو حال اقتحام مسجد انصار جند الله في رفح.
الخيارات الحمساوية صعبة، هذا أمر مفهوم، فاذا هي تطرفت في قراراتها تصطدم مع قطاع عريض من الخاضعين تحت حكمها من العلمانيين أو المستقلين، مثلما أقدمت أخيرا على منع عرض الملابس النسائية في واجهة المحلات، وأسست فرق الشرطة الدينية لضبط 'الأخلاق' واذا اعتدلت وغضت النظر قليلا تجد نفسها في مواجهة مع الجماعات الاسلامية المتشددة التي 'تزاود' عليها عقائديا وتطالب بتطبيق صارم للشريعة الاسلامية. ولكن لا بد من التذكير بأن 'حماس' هي التي وضعت نفسها في هذا 'المأزق' عندما اختارت أخذ زمام الأمور بيدها في القطاع، واخراج السلطة الفاسدة وقواتها الامنية منه، ووضع حد لحال الفلتان الامني، وتحويله أي القطاع الى قاعدة للمقاومة.
حركة 'حماس' تجد نفسها ملزمة بحسم هذه الحالة 'الضبابية' التي تعيشها حاليا، فاذا ارادت ان تكون سلطة حاكمة فقط، وتطيل أمد الهدنة، وتسعى لاعتراف دولي، فان عليها ان تتبع نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا وتستفيد من تجربته البراغماتية بجوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا النموذج لا يستقيم مع عنوانها الحالي كحركة مقاومة، او ان تعود الى منابعها الاولى وتتمسك بخيار المقاومة مثلما هو حال 'حزب الله' في لبنان حتى تحقق أهدافها بتحرير الأرض.
الوقوف في الوسط بين هذين الخيارين مثلما هو حاصل حاليا، يصلح لفترة مؤقتة، ولكنه خيار سيؤدي الى انفجار اعراض جانبية خطيرة، خصوصا اذا طال أمده، مثل بروز ظاهرة 'أنصار جند الله' الاخيرة، والصدام معها، وهو صدام قد يكون مقدمة لصدامات اخرى اخطر، مثل الصدام مع حركة 'الجهاد' تحديدا.
حركة 'حماس' تعيش وضعا صعبا، لا شك في ذلك، حيث تتكاثر السيوف المشهرة ضدها، في ظل حصار ظالم، وهذا الوضع يتطلب مراجعة شاملة مكثفة للحفاظ على صورتها ومكانتها، وتفويت الفرصة على الشامتين بها، والمتآمرين عليها من داخل فلسطين وخارجها.
كلمة أخيرة، وهي: ان حكم غابة من الاسود اسهل بكثير من حكم قطاع غزة، هذه القناعة توصل اليها رابين وشارون، واقتنع بها أولمرت، وجربها الرئيس محمود عباس وجنرالاته قادة الاجهزة الامنية، والمأمول ان يكون حظ 'حماس' أفضل من هؤلاء جميعا، وكان الله في عونها في جميع الأحوال.
"
No comments:
Post a Comment