مفاوضات يجب التبرؤ منها
عبد الباري عطوان
"منظمة التحــــرير الفلسطينية، وعــندما كانت في أسوأ أيامها (عام 1991) بسبب حصار دول الخليج المالي والسياسي ضدها لموقفها من حرب العراق الأولى، لم تذهب الى مؤتمر مدريد للسلام الا بعد عقد جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني، وأخرى للمجلس المركزي وحوالي عشر جلسات للجنتها التنفيذية، وجاءت الموافقة مشروطة بتحقيق خمسة شروط ابرزها الاعتراف بها، والتمسك بالثوابت الفلسطينية.
الآن يذهبون الى المفاوضات دون مجلس وطني ولا مركزي، وبعد اجتماع ناقص النصاب للجنة تنفيذية منتهية صلاحيتها أساسا، وتمثل نصف الشعب الفلسطيني ان لم يكن اقل.
هذه المفاوضات غير المباشرة التي بدأت يوم امس، حسب اعلان الدكتور صائب عريقات، رئيس دائرة المفاوضات في السلطة الفلسطينية، جاءت وفق الشروط الاسرائيلية، ولأهداف ليس لها علاقة بالشعب الفلسطيني وتطلعاته في العودة واستعادة جميع الحقوق المغتصبة.
الموافقة 'المكتوبة' التي صدرت بالمشاركة فيها غير شرعية، وجميع المشاركين فيها، وعلى المستويات كافة، لا يتمتعون بأي تفويض شرعي من الشعب، في الوطن والشتات، ولهذا فإن أي اتفاقات قد تتمخض عنها، غير ملزمة للشعب الفلسطيني، والادعاء بأنها ستعرض عليه في استفتاء عام مرفوض، لأنه تزوير لإرادة هذا الشعب.
الفصائل الأبرز في منظمة التحرير، التي طالما وفرت الغطاء للسلطة لانتزاع التمثيل الفلسطيني دون وجه حق، قاطعت اجتماع اللجنة الاخير، واعترضت رسميا على المفاوضات، ونحن نتحدث هنا عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات الثقل الابرز في اللجنة على وجه الخصوص، التي طفح كيلها فيما يبدو، وانحازت الى الثوابت الوطنية أخيرا، وتراجعت عن مواقفها الاخيرة التي أدت الى فقدانها للكثير من رصيدها في الشارع الفلسطيني، وهو موقف يحسب لها ويستحق التثمين.
ما يسمى بأمناء الفصائل الذين 'وافقوا' على قرار المشاركة هذا، لأسباب نعرفها جميعا، ليس لمعظمهم أي تمثيل حقيقي في الشارع الفلسطيني، سواء في الوطن أو المنفى، وباتوا مجرد قطع أثاث في كيان مهترئ اسمه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فهذه انصاف أو أرباع فصائل، لم تفز معظمها بمقعد واحد في انتخابات المجلس التشريعي الاخيرة، وأصبحت في معظمها مقتصرة العضوية على أمينها العام وزوجته وأولاده وحراس مكتبه.
القرار الفلسطيني بات وللأسف الشديد محصورا في مجموعة من الافراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، ليس لهم أي مرجعية، وطنية، تناقشهم أو تحاسبهم، وهذا أمر خطير لا يجب السكوت عليه، حتى لا تورط الشعب الفلسطيني في اتفاقات تفرط بالحقوق المشروعة يصعب الفكاك منها، وتقيد الاجيال المقبلة.
' ' '
نحن أمام خدعة كبرى، يجري تغليفها بالقول بأن الذهاب الى المفاوضات غير المباشرة، جاء بقرار عربي، وعبر ما يسمى 'لجنة مبادرة السلام العربية'، تبنّته أثناء اجتماعها الاخير في مقر الجامعة العربية في القاهرة.
قرار لجنة المتابعة هذا ليس عربيا، وانما قرار أملته الولايات المتحدة الامريكية، على مجموعة من 'دول الاعتدال'، اجتمعت في ليل، وعلى عجل، وقررت توفير مظلة يستظل بها من أرادوا الذهاب الى المفاوضات... فهناك دول عربية، عديدة لم تستشر، ومعظمها لا يوافق على هذه الخطوة.
وعّاظ التبرير في السلطة، قالوا انهم بالموافقة على العودة الى المفاوضات غير المباشرة هذه، أرادوا تعرية اسرائيل أمام المجتمع الدولي، وكشف عوراتها وسياساتها الاستيطانية المعرقلة للعملية السلمية.
... سبحان الله، سمعنا هذه الكلمة أكثر من مليون مرة، على مدى السنوات الماضية، وكأن السياسات الاسرائيلية العدوانية والاستيطانية لم تكن عارية وبطريقة استفزازية، وكأن اسرائيل ومسؤوليها لا يتباهون بهذا العري ويفتخرون به.
إنه الافلاس في أبشع صوره، وأشكاله، والأخطر من كل ذلك ان هؤلاء المفلسين يكابرون، يكذبون ويتجملون، ويتعاملون مع الشعب الفلسطيني وكأنه قطيع يعلفونه بالوعود المعسولة المعلبة، ويستغلون فقره، وحصاره، ومعاناته، من أجل لقمة العيش، للانخراط في مخططات يعرفون سلفا انه يمقتها ويعارضها.
اسرائيل لم توقف بناء المستوطنات وتوسيعها ولن تتخلى عن عمليات تهويد القدس، وباقي الاراضي العربية المحتلة، وبالامس فقط جرى الاعلان عن بناء منازل جديدة في حي راس العامود بالقدس المحتلة، في اليوم الاول لبدء المفاوضات غير المباشرة في تحد واضح، واذلال متعمد للطرف الفلسطيني الذي سينخرط فيها. ومن أعلن ذلك ليس المتحدثون باسم السلطة، وانما حركة 'السلام الآن' الاسرائيلية، ولن نستغرب اذا ما نفى هؤلاء هذا النبأ.
' ' '
الادارة الامريكية، مثل كل الادارات التي سبقتها، تعرف جيدا الطرف المعرقل لعملية السلام، ولا تحتاج الى الاشراف على مفاوضات، مباشرة أو غير مباشرة، للتأكد من ذلك، فقد كانت أمريكا الراعي الوحيد لكل جولات المفاوضات المباشرة التي انطلقت قبل سبعة عشر عاما، ومنذ توقيع اتفاقات أوسلو على وجه التحديد، ولكن هناك من أدمنوا عمليات التبرير وباتت جزءا أصيلا من سياساتهم.
المسألة مسألة كسب وقت، لا أكثر ولا اقل، ريثما تكتمل الاستعدادات اللازمة، عسكريا، أو دبلوماسيا (عقوبات اقتصادية) للتعاطي مع الملف النووي الايراني، والتسليح المتضخم للمقاومة الاسلامية في جنوب لبنان بقيادة حزب الله، ودعم سورية له بالصواريخ والعتاد العسكري.
' ' '
نشعر بالألم ونحن نرى طرفا فلسطينيا يُوظَف، وبطريقة بشعة، في خدمة هذا المخطط الخطير، وهو مفتوح العينين، وعلى اطلاع على معظم تفاصيله، ان لم يكن كلها. ويجتهد في الدفاع عنه.
عارضنا القرار الوطني الفلسطيني المستقل، انطلاقا من ايماننا بعروبة هذه القضية وإسلاميتها، وعندما كانت الحكومات العربية تبني سياساتها الامنية والعسكرية من أجل تحرير فلسطين من البحر الى النهر، وتتبنى لاءات الخرطوم الثلاث، وتسخر كل امكانياتها من اجل خوض معارك الشرف والكرامة، ولكن الآن، وبعد أن أصبحت معظم الحكومات العربية أدوات في خدمة المخططات الامريكية والاسرائيلية، فاننا نطالب بالتمسك بالقرار الفلسطيني المستقل، ونرفض ان تختطف هذا القرار لجنة عربية هجين، تسمى بلجنة متابعة مبادرة سلام تعفــــنت وفاحت رائحـــتها... لجــنة رئيستها الحالــــية الحقيقية هي السيدة هـــيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، التي تسلمت زمام القيادة من سلفها غير الصالح السيدة الأخرى كوندوليزا رايس.
المفاوضات غير المباشرة هي 'مسجد ضرار' آخر لإجهاض حراك فلسطيني بدأ يتبلور، يدفع باتجاه المقاومة بأشكالها خاصة، بعد أن ترسخت القناعات بسقوط حل الدولتين، وفشل العملية السلمية، ولذلك يجب أن يتبرأ منها الشعب الفلسطيني، والمشاركون فيها، قبل فوات الأوان، ونحن اول المتبرئين.
الشعب الفلسطيني، ليس حـــــقل تجارب، ولا يجب أن يكــــون، لأنه شــــعب كريـــم أبي، تاريخه العريق والمشرف، يشهد على تضحياته وبطولاته وصموده في مواجهة أبشع أنـــواع الحصار والعدوان. ومشكلته أن بعضا من أبـــنائه يتجــــاهلون هذه الحـــقائق، ويتعامــــون عنها، ويلهـــثون خلف سراب حلول وتســـويات دون كلل أو ملل.
"
عبد الباري عطوان
"منظمة التحــــرير الفلسطينية، وعــندما كانت في أسوأ أيامها (عام 1991) بسبب حصار دول الخليج المالي والسياسي ضدها لموقفها من حرب العراق الأولى، لم تذهب الى مؤتمر مدريد للسلام الا بعد عقد جلسة للمجلس الوطني الفلسطيني، وأخرى للمجلس المركزي وحوالي عشر جلسات للجنتها التنفيذية، وجاءت الموافقة مشروطة بتحقيق خمسة شروط ابرزها الاعتراف بها، والتمسك بالثوابت الفلسطينية.
الآن يذهبون الى المفاوضات دون مجلس وطني ولا مركزي، وبعد اجتماع ناقص النصاب للجنة تنفيذية منتهية صلاحيتها أساسا، وتمثل نصف الشعب الفلسطيني ان لم يكن اقل.
هذه المفاوضات غير المباشرة التي بدأت يوم امس، حسب اعلان الدكتور صائب عريقات، رئيس دائرة المفاوضات في السلطة الفلسطينية، جاءت وفق الشروط الاسرائيلية، ولأهداف ليس لها علاقة بالشعب الفلسطيني وتطلعاته في العودة واستعادة جميع الحقوق المغتصبة.
الموافقة 'المكتوبة' التي صدرت بالمشاركة فيها غير شرعية، وجميع المشاركين فيها، وعلى المستويات كافة، لا يتمتعون بأي تفويض شرعي من الشعب، في الوطن والشتات، ولهذا فإن أي اتفاقات قد تتمخض عنها، غير ملزمة للشعب الفلسطيني، والادعاء بأنها ستعرض عليه في استفتاء عام مرفوض، لأنه تزوير لإرادة هذا الشعب.
الفصائل الأبرز في منظمة التحرير، التي طالما وفرت الغطاء للسلطة لانتزاع التمثيل الفلسطيني دون وجه حق، قاطعت اجتماع اللجنة الاخير، واعترضت رسميا على المفاوضات، ونحن نتحدث هنا عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات الثقل الابرز في اللجنة على وجه الخصوص، التي طفح كيلها فيما يبدو، وانحازت الى الثوابت الوطنية أخيرا، وتراجعت عن مواقفها الاخيرة التي أدت الى فقدانها للكثير من رصيدها في الشارع الفلسطيني، وهو موقف يحسب لها ويستحق التثمين.
ما يسمى بأمناء الفصائل الذين 'وافقوا' على قرار المشاركة هذا، لأسباب نعرفها جميعا، ليس لمعظمهم أي تمثيل حقيقي في الشارع الفلسطيني، سواء في الوطن أو المنفى، وباتوا مجرد قطع أثاث في كيان مهترئ اسمه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فهذه انصاف أو أرباع فصائل، لم تفز معظمها بمقعد واحد في انتخابات المجلس التشريعي الاخيرة، وأصبحت في معظمها مقتصرة العضوية على أمينها العام وزوجته وأولاده وحراس مكتبه.
القرار الفلسطيني بات وللأسف الشديد محصورا في مجموعة من الافراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، ليس لهم أي مرجعية، وطنية، تناقشهم أو تحاسبهم، وهذا أمر خطير لا يجب السكوت عليه، حتى لا تورط الشعب الفلسطيني في اتفاقات تفرط بالحقوق المشروعة يصعب الفكاك منها، وتقيد الاجيال المقبلة.
' ' '
نحن أمام خدعة كبرى، يجري تغليفها بالقول بأن الذهاب الى المفاوضات غير المباشرة، جاء بقرار عربي، وعبر ما يسمى 'لجنة مبادرة السلام العربية'، تبنّته أثناء اجتماعها الاخير في مقر الجامعة العربية في القاهرة.
قرار لجنة المتابعة هذا ليس عربيا، وانما قرار أملته الولايات المتحدة الامريكية، على مجموعة من 'دول الاعتدال'، اجتمعت في ليل، وعلى عجل، وقررت توفير مظلة يستظل بها من أرادوا الذهاب الى المفاوضات... فهناك دول عربية، عديدة لم تستشر، ومعظمها لا يوافق على هذه الخطوة.
وعّاظ التبرير في السلطة، قالوا انهم بالموافقة على العودة الى المفاوضات غير المباشرة هذه، أرادوا تعرية اسرائيل أمام المجتمع الدولي، وكشف عوراتها وسياساتها الاستيطانية المعرقلة للعملية السلمية.
... سبحان الله، سمعنا هذه الكلمة أكثر من مليون مرة، على مدى السنوات الماضية، وكأن السياسات الاسرائيلية العدوانية والاستيطانية لم تكن عارية وبطريقة استفزازية، وكأن اسرائيل ومسؤوليها لا يتباهون بهذا العري ويفتخرون به.
إنه الافلاس في أبشع صوره، وأشكاله، والأخطر من كل ذلك ان هؤلاء المفلسين يكابرون، يكذبون ويتجملون، ويتعاملون مع الشعب الفلسطيني وكأنه قطيع يعلفونه بالوعود المعسولة المعلبة، ويستغلون فقره، وحصاره، ومعاناته، من أجل لقمة العيش، للانخراط في مخططات يعرفون سلفا انه يمقتها ويعارضها.
اسرائيل لم توقف بناء المستوطنات وتوسيعها ولن تتخلى عن عمليات تهويد القدس، وباقي الاراضي العربية المحتلة، وبالامس فقط جرى الاعلان عن بناء منازل جديدة في حي راس العامود بالقدس المحتلة، في اليوم الاول لبدء المفاوضات غير المباشرة في تحد واضح، واذلال متعمد للطرف الفلسطيني الذي سينخرط فيها. ومن أعلن ذلك ليس المتحدثون باسم السلطة، وانما حركة 'السلام الآن' الاسرائيلية، ولن نستغرب اذا ما نفى هؤلاء هذا النبأ.
' ' '
الادارة الامريكية، مثل كل الادارات التي سبقتها، تعرف جيدا الطرف المعرقل لعملية السلام، ولا تحتاج الى الاشراف على مفاوضات، مباشرة أو غير مباشرة، للتأكد من ذلك، فقد كانت أمريكا الراعي الوحيد لكل جولات المفاوضات المباشرة التي انطلقت قبل سبعة عشر عاما، ومنذ توقيع اتفاقات أوسلو على وجه التحديد، ولكن هناك من أدمنوا عمليات التبرير وباتت جزءا أصيلا من سياساتهم.
المسألة مسألة كسب وقت، لا أكثر ولا اقل، ريثما تكتمل الاستعدادات اللازمة، عسكريا، أو دبلوماسيا (عقوبات اقتصادية) للتعاطي مع الملف النووي الايراني، والتسليح المتضخم للمقاومة الاسلامية في جنوب لبنان بقيادة حزب الله، ودعم سورية له بالصواريخ والعتاد العسكري.
' ' '
نشعر بالألم ونحن نرى طرفا فلسطينيا يُوظَف، وبطريقة بشعة، في خدمة هذا المخطط الخطير، وهو مفتوح العينين، وعلى اطلاع على معظم تفاصيله، ان لم يكن كلها. ويجتهد في الدفاع عنه.
عارضنا القرار الوطني الفلسطيني المستقل، انطلاقا من ايماننا بعروبة هذه القضية وإسلاميتها، وعندما كانت الحكومات العربية تبني سياساتها الامنية والعسكرية من أجل تحرير فلسطين من البحر الى النهر، وتتبنى لاءات الخرطوم الثلاث، وتسخر كل امكانياتها من اجل خوض معارك الشرف والكرامة، ولكن الآن، وبعد أن أصبحت معظم الحكومات العربية أدوات في خدمة المخططات الامريكية والاسرائيلية، فاننا نطالب بالتمسك بالقرار الفلسطيني المستقل، ونرفض ان تختطف هذا القرار لجنة عربية هجين، تسمى بلجنة متابعة مبادرة سلام تعفــــنت وفاحت رائحـــتها... لجــنة رئيستها الحالــــية الحقيقية هي السيدة هـــيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، التي تسلمت زمام القيادة من سلفها غير الصالح السيدة الأخرى كوندوليزا رايس.
المفاوضات غير المباشرة هي 'مسجد ضرار' آخر لإجهاض حراك فلسطيني بدأ يتبلور، يدفع باتجاه المقاومة بأشكالها خاصة، بعد أن ترسخت القناعات بسقوط حل الدولتين، وفشل العملية السلمية، ولذلك يجب أن يتبرأ منها الشعب الفلسطيني، والمشاركون فيها، قبل فوات الأوان، ونحن اول المتبرئين.
الشعب الفلسطيني، ليس حـــــقل تجارب، ولا يجب أن يكــــون، لأنه شــــعب كريـــم أبي، تاريخه العريق والمشرف، يشهد على تضحياته وبطولاته وصموده في مواجهة أبشع أنـــواع الحصار والعدوان. ومشكلته أن بعضا من أبـــنائه يتجــــاهلون هذه الحـــقائق، ويتعامــــون عنها، ويلهـــثون خلف سراب حلول وتســـويات دون كلل أو ملل.
"
No comments:
Post a Comment