Link
صبحي حديدي
"....
في صياغة أخرى: هل ستنخرط الأديان أو الطوائف في احتراب داخلي، ضمن صفّين لا ثالث
لهما: واحد يناهض النظام، وثانٍ يدافع عنه؟ ألا يقوم معمار النظام القاعدي على
تحالف مصالح وفئات وشرائح، عابرة للأديان والطوائف، شاملة لكلّ الأديان والطوائف،
غير ممثِّلة في الآن ذاته لأي دين أو طائفة؟ أم أنّ الأديان والطوائف سوف تتقاتل
على هذَين الخطّين السالفين، أوّلاً؛ ثم تنخرط، بعدئذ، في صراع على الافتراقات
الأخرى ما فوق الدنيوية، الفقهية واللاهوتية والمذهبية، بين دين ودين، وطائفة
وطائفة؟ وإذا جاز هذا التوسيع لمضامين الاحتراب، فهل يجوز زجّ الناس هكذا في صفّين،
أو بالأحرى قالبَيْن، لم يعد فيهما مكان لمطالب الشعب الواحد، في الحرية
والديمقراطية والتعددية والعدالة والكرامة ودولة القانون؟ وحتى إذا تمتع النظام
بدرجات ولاء أعلى لدى طائفة دون أخرى، فإنّ الحافز وراء هذه الحال هو الخوف على
مصير الطائفة، وليس الحرص على بقاء النظام؛ وثمة فارق جوهري هائل، من الغبن أن
يُطمس في عماء تصنيف الولاءات على أساس الجموع (الطوائف أو الأديان)، وليس المصالح
الفعلية.
هذا هو السبب الأوّل في أنّ احتراباً كهذا، أياً كانت تسمياته الأخرى،
ليست له أرضية اجتماعية في سورية الراهنة، وفي شرط الانتفاضة واحتضار النظام بصفة
خاصة، ولهذا فهو لا يقع إلا في ثنايا خطاب الترهيب الذي اعتمده ويعتمده النظام بهدف
كسر روح المقاومة، وردع المواطنين، ودفع 'الأغلبية الصامتة' إلى الإمعان أكثر في
انعزالها. سبب آخر، هنا، هو أنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس محلّ
اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو غاية تستقطب الاتفاق التامّ، وكانت هذه
حالهم في الماضي، منذ فجر الاستقلال، كما هي حالهم اليوم أيضاً. وفي المقابل، ليس
للنظام طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت رؤوسه قد انخرطت في تجييش محموم لطائفة
بعينها، وتقصدت الإيحاء بتمثيل تلك الطائفة، وتعهّد مصيرها؛ وليس له دين أيضاً،
مهما أتقن ألعاب التمسّح بالأديان أو التزلف للمتدينين. ولهذا لن يدافع كبار أنصار
النظام عن بقائه لأسباب دينية أو طائفية، بصرف النظر عن توفّر هذا المقدار أو ذاك
من الولاء العصبوي، بل ستحرّكهم أسباب أخرى أدنى إلى الأرض منها إلى السماء، على
رأسها مصالح النهب والفساد، واتقاء الحساب العسير ساعة تنقلب سورية من مزرعة إلى
دولة حقّ وقانون.
ثمة، إلى هذا، ذلك السبب الرابع الجوهري، الذي يهبط باحتمالات
'الحرب الأهلية' أو 'الحرب الطائفية' إلى درجات دنيا أقرب إلى الصفر، أي سؤال
الفرقاء الذين سينخرطون في حروب عمادها الانتماء إلى دين، أو إلى طائفة؛ وهذا سبب
يتمّ غالباً تفادي مناقشته على نحو ملموس، أو ضمّه إلى ميدان المعطيات المسكوت
عنها. فإذا صحّ أنّ أديان المجتمع السوري وطوائفه لن تقتتل في ما بينها، دفاعاً عن
نظام الاستبداد والفساد والنهب والحكم العائلي، خاصة بعد سلسلة جرائمه بحقّ الشعب
والوطن؛ فما الذي سيجعلها تقتتل اليوم، إذاً، ما دامت لم تنجرف إلى حافة مماثلة
طيلة تاريخ سورية، القديم والوسيط والحديث والمعاصر؟ وإذا ساجل البعض بأنّ نوازع
الثأر سوف تعصف بالنفوس، خاصة أنّ الجرائم التي ارتُكبت رهيبة مروعة، تبدأ من
التصفية والموت تحت التعذيب والتمثيل بالجثث، ولا تنتهي عند الاغتصاب والمجازر
الجماعية؛ فإنّ سورية ليست أوّل دولة شهد مجتمعها هذه الأهوال، ثمّ تصالح وطنياً،
ولن تكون الأخيرة.
كذلك لا نملّ، نحن السوريين، من ضرب هذه السابقة الوطنية،
التي ترتقي عندنا إلى سوية الأمثولة: إذا كان الانتداب الفرنسي قد فشل في إقامة
دويلات سورية، مناطقية أو طائفية، وتمكّن السوريون من خوض حرب الاستقلال بقائد
درزي، ونائب له علوي، ونائب ثاٍن كردي... فكيف لا يكون مصير مشروع التفتيت الذي قد
ينخرط فيه نظام العصابات والميليشيات والشبيحة، على شاكلة المشروع الذي دبّرته
إدارة استعمارية، بل أسوأ؟ ثمّ، في العودة من التاريخ الماضي إلى التاريخ الحاضر،
إذا كان السوريون المسلمون لم ينخرطوا، البتة، في أي شكل من أشكال المواجهة المسلحة
مع السوريين المسيحيين؛ وكذلك لم يفعل السوريون السنّة مع السوريين العلويين،
فلماذا يتوجب أن يهرعوا الآن إلى الاحتراب الداخلي... الآن بالذات، حينما يصبح قطاف
تضحيات بناتهم وأبنائهم، نسائهم وشيوخهم وأطفالهم، دانياً وشيكاً؟
......."
No comments:
Post a Comment