ليس مسموحاً أن تتطور الأحداث في غزة، بغض النظر عمّن وراءها، إلى اقتتال فلسطيني داخلي، في وقت استشرست فيه إسرائيل، مستغلة انخراطاً عربياً بأوليات الحرب الأميركية، تاركة لإسرائيل العنان في القتل واستباحة الأراضي والبشر معاً. كان من المفروض أن نشهد عزلة دولية لإسرائيل، بعد جريمتها في غزة، لكن ما حصل أن الأنظار توجهت إلى داعش، وإلى الحرب الأميركية، ويبدو أن الأنظمة العربية اغتنمت الفرصة لتأكيد استمرارية حظوتها عند الراعي الأميركي: فمواجهة إسرائيل بالخطابات، لن تفيد في التأكيد على دور الأنظمة الوظيفي، لأن جزءاً أساسياً منها لا تشكل خطراً، ولو معنوياً، على إسرائيل.
الصمت العربي، في أثناء المجزرة الإسرائيلية الكبرى ضد غزة وأهلها، أقنع واشنطن بأن الأنظمة تتنافس على طاعتها، وأن القيادات الفلسطينية عاجزة عن اتخاذ أي خطوات، حتى باتجاه تبني استراتيجية، وعلى الأقل موقف موحد، للدفاع عن حقوق فلسطين وشعبها.
وكان أن شد الوفد الفلسطيني الرحال إلى واشنطن، ليجد استقبالاً بارداً، مضمونه أن أميركا مشغولة بأولوياتها، وأن فلسطين ليست على سلم الأولويات ولا الملحقات، فإسرائيل نجت من المساءلة والاستحقاق، ولا خطر عليها، فلا يوجد سبب يدعو أميركا للتحرك، إذ كان هدف تحركها دائماً، امتصاص النقمة الفلسطينية والتخدير المستمر ليس أكثر.
الأهم أن واشنطن أبلغت الوفد الفلسطيني، كما قال لي مسؤول في منظمة التحرير الفلسطينية، إنها لن تقف ساكنة إذا تحرك الفلسطينيون باتجاه مجلس الأمن لطلب اعتراف بالدولة الفلسطينية، أو محكمة الجنايات الدولية، أو أي منظمة أممية، أي بمعنى آخر، لم تكتف الإدارة الأميركية بإبلاغهم أن لا وقت لديها لهم، لكن، ترافق مع ذلك تحذير وتهديد للسلطة الفلسطينية بالتزام الصمت وعدم الحركة، لأن واشنطن لن تسمح لها بذلك.
عدم اكتراث واشنطن بالتهديدات القيادة الفلسطينية مفهوم، لأن المناورة الرسمية الفلسطينية لا تتجاوز حدود محاولة بائسة للفت نظر أميركا إلى التحرك الدبلوماسي العقيم، على الرغم من اعتراف المسؤولين الفلسطينيين بلا جدوى المفاوضات، ومعرفتهم التامة بأن أميركا لم تقترب إنشاً واحداً من الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، ولم تحاول رفع إصبع واحد لوقف الزحف الاستيطاني وسلب الأراضي الفلسطينية.
أما قيادات حركتي فتح وحماس فمشغولة بتعزيز مواقعها السلطوية، ونزاع على سلطة لا سلطة لها، إلا في سياسات منع وسجن الفلسطينيين، وأقصد من الطرفين، وليس طرفاً واحداً، فهناك سياسة استقواء على الفلسطينيين، تجاوزت حدود العيب والخجل، وكأن تحرير فلسطين يمر عبر تثبيت سلطات قمعية، ولا أستثني، هنا، أي طرف منهما.
الأخطر هو الاستهانة بتحرك الشعب الفلسطيني، وانتفاضاته الصغرى والمهمة في كل أرجاء فلسطين، أشكال المقاومة الفردية والجمعية التي تشهدها فلسطين على كل أرضها التاريخية، هي المؤشر الأساس، وهي فضيحة، بل وجريمة، أن يترافق ظهور جيل فلسطيني مقاوم، مع تهاوي قيادات في السلطة ورحلات الاستجداء إلى واشنطن، وما من ملاحقة لإسرائيل على جرائمها، بما في ذلك اغتيال الشهيد ياسر عرفات.
الحركة الأهم هي التقاط اتساع النفس المقاوم، فالمقاومة هي العامل الحاسم في النضال التحرري، أما الاستجداء والهوس بالسلطة والقتال عليها، فهي طعن لكل أشكال المقاومة، وتضحيات الشعب الفلسطيني، بل ومساهمة ضمنية في قمع النفس المقاوم، لأن الميوعة السياسة والاقتتال الداخلي هي تقويض للوحدة الوطنية والمقاومة، وبالتالي، تسهيل للمهمة الإسرائيلية في إخماد المقاومة والنفس المقاوم معاً.
No comments:
Post a Comment