المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تحريك المسار السياسي
مع التصعيد الميداني الذي رافق التدخل العسكري الروسي في سورية، ازدادت المخاوف من تداعيات تحوّل المسألة السورية إلى صراع إرادات إقليمي ودولي قد يخرج عن نطاق السيطرة مع تعدّد الفاعلين من دول وتنظيمات وميليشيات. فالغطاء الجوي الروسي الداعم للنظام السوري، والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه، ذات الإدارة والإرادة الإيرانية، قابلهما زيادة في مستوى الدعم العسكري لقوات المعارضة على الأرض؛ ما أفشل الخطط الروسية في استعادة نقاط إستراتيجية في جبهات الشمال الغربي، أو في محيط العاصمة دمشق. وكانت معارك ريف حماة التي اندلعت بعد أسبوع من التدخل العسكري الروسي، واستخدمت فيها صواريخ تاو (الأميركية الصنع) المضادة للدبابات على نطاق واسع، أبرز دليل على مدى إصرار المعارضة السورية والدول الداعمة لها على إفشال أهداف موسكو الرامية إلى فرض معادلات ميدانية جديدة، وحلٍ سياسي يبنى عليها. وهكذا اختزل أثر التدخل الروسي في هدفه الأصلي، وهو إنقاذ النظام من السقوط.
وزادت المخاوف من حصول صدامات غير مقصودة بين قوات جوية لدول عديدة تحلّق في الأجواء السورية تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" احتمالات التصعيد، وخصوصاً بعد أن وقعت بعض الحوادث، مثل إسقاط تركيا طائرة من دون طيار (يعتقد أنها روسية) على حدودها مع سورية، واختراق الطائرات الروسية الأجواء التركية أكثر من مرة؛ ما زاد الحاجة إلى فتح مسارٍ سياسي، يمنح جميع الأطراف فرصةَ التواصل لاحتواء أي تصعيد محتمل.
وربما دفعت خشية موسكو أيضًا من الانجرار إلى حرب استنزاف غير واضحة الأفق في
تفاعلات اجتماع فيينا الموسّع
اتضحت في اجتماع فيينا، أخيراً، ملامح جديدة لتفاعلات الصراع السوري، يمكن إجمالها بالآتي:
• في ظل غياب أي طرفٍ سوري عن اجتماعات فيينا، سواء من النظام أو المعارضة، بدا واضحاً أنّ الحلّ لم يعد في متناول السوريين، بل أصبح شأناً إقليمياً ودوليًا. ويُرجّح أن ينتج هذا الحلّ، إن جرى التوصّل إليه، من توافق إرادات بين المحورين اللذين تكرّس وجودهما في الاجتماع. ويضم المحور الأول السعودية وتركيا وقطر، ويصرّ على وثيقة "جنيف 1" إطاراً وحيداً للحل، وعلى تسوية "عادلة" تفضي إلى هيئة أو إدارة انتقالية تقصي الأسد من المشهد السياسي، ومن مستقبل سورية، وتبدأ بإعادة الإعمار. ويضم الثاني روسياً وإيران، ويقترح وقفاً لإطلاق النار، ومفاوضات تفضي إلى حكومة تضم النظام وشخصيات معارضة تتولى إجراء انتخابات برلمانية، وأخرى رئاسية تضمن للأسد الترشّح فيها. إنّ إجراء أي انتخابات بوجود الأسد، وهو يتحكم بأجهزة الأمن، وتقتصر على المناطق التي يسيطر عليها النظام، لن تختلف كثيراً عن سابقاتها.
•اضطلعت الولايات المتحدة في اجتماع "فيينا 2" بدور "الوسيط" بين المحوريْن السابقين. وبخلاف موقفها المعلن، نأت بنفسها عن السجالات أو ممارسة الضغط على روسيا لإقناعها إبداء مرونة تجاه القضايا الخلافية. وعلى المنوال نفسه، سارت أغلبية الدول العربية المشاركة؛ إذ تنتظر أية تسوية تتمخض عن مفاوضات الجانبين، بغض النظر عن شكل التسوية النهائية وتفاصيلها.
• تمكّن حلفاء المعارضة من انتزاع تنازلٍ مهم في فيينا؛ إذ نص البيان الختامي الذي وقع عليه
* أظهر اجتماع فيينا مواقف أوروبية (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا) أكثر حدّة تجاه التدخل العسكري الروسي، مقارنة بمواقفها السابقة، أو بالموقف الأميركي التي اعتادت الدول الأوروبية السير على خطاه. ويعود ذلك إلى اقتناعٍ أوروبي بأنّ غارات موسكو لا تستهدف تنظيم الدولة، ولن تساهم إلا في إطالة أمد الصراع، وتدفق موجات جديدة من اللاجئين السوريين إلى أوروبا. وفي هذا السياق، تشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى أنّ الضربات الروسية أجبرت أكثر من 120 ألف سوري، معظمهم من ريف حلب، على النزوح من مناطقهم إلى الحدود السورية – التركية، وينتظر كثير من هؤلاء فتح المعابر مع تركيا للانتقال إلى أوروبا والاستقرار فيها.
عودة إلى فيينا من بوابة حلب
بالتوازي مع المسار السياسي في فيينا، استمر حلفاء النظام في محاولة تحسين مواقعهم التفاوضية، قبل العودة إلى الاجتماع مجددًا منتصف شهر نوفمبر/تشرين ثاني الجاري؛ وذلك عبر التصعيد ميدانيًا في حلب. ويعدّ ازدياد عدد القتلى من الضباط الإيرانيين وعناصر الحرس الثوري في ريف حلب الجنوبي مؤشراً على شدة المعارك وضراوتها، واندفاع طهران وموسكو لتحقيق حسم عسكري في المحافظة بأي ثمن للاستفادة من الواقع الميداني الجديد، وفرض رؤيتهما للحل في فيينا. وكان لافتاً تزامن هجوم تنظيم الدولة على ريف حلب الجنوبي ضد قوى المعارضة السورية، مع الهجوم الروسي - الإيراني في محافظة حلب نفسها.
تنبهت الدول المناوئة للمحور الروسي - الإيراني لأهداف الحملة العسكرية على حلب، وقدّمت دعماً نوعيًا لفصائل المعارضة، مكّنتها من إيقاف القوات المهاجمة عند خان طومان، واستعادت
خاتمة
على الرغم من الصعوبات التي تكتنف المفاوضات، يمكن أن يمثل مسار فيينا إطاراً جديًا لحل الأزمة يحظى بإجماع دولي وإقليمي، وخصوصاً بسبب الصعوبات التي يواجهها المحور الإيراني - الروسي في تحقيق أي نتائج مهمة على الأرض، بعد أكثر من شهر على بدء عمليات القصف الروسي، وبعد أن أرسلت إيران أعدادًا كبيرة من قوات الحرس الثوري، للمشاركة في المعارك، خصوصاً في حلب. لكنّ الدول الرئيسة الداعمة للمعارضة تواجه تحدياتٍ بسبب محاولة روسيا وإيران زجّ مزيد من القوات، لتغيير الوقائع على الأرض، استباقًا للتسوية المحتملة، وكذلك بسبب "حيادية" الإدارة الأميركيّة ونزوعها لقبول أي حلٍّ يتماشى مع سياساتها في سورية، وحربها ضد تنظيم الدولة؛ وهو ما يمنح روسيا وإيران هامش مناورة أكبر في جولات التفاوض القادمة. وحتى لا تصبح المفاوضات غطاءً سياسياً لاستمرار العمليات العسكرية الروسية والإيرانية في سورية، لا بدّ من التوافق على نقاط أوليّة ضرورية، أقلها تحييد المدنيين عن القصف في أثناء مرحلة التفاوض. من جهة أخرى، يبدو جلياً أنّ التدخل العسكري الروسي نجح في إحداث تقارب سعودي - تركي كبير، وهو معطى يمكن البناء عليه، خصوصاً بعد فوز حزب العدالة والتنمية، لمساعدة المعارضة السوريّة، بشقيها السياسي والعسكري، على تنظيم صفوفها وتنسيق جهودها لمواجهة التدخل الروسي - الإيراني. ويمكن أن يكون الردّ الوحيد على مطلب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، تعريف "من هي المعارضة المعتدلة؟" هو توحيد المعارضة السورية المسلحة والسياسية باتجاهاتها كافة في قوة واحدة، تمنع عزل أيٍّ من مكوناتها، وتغيّر موازين القوى على الأرض، وتشكّل طرفاً يمثل الشعب السوري في أي مفاوضات قادمة.
No comments:
Post a Comment