المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
3 نوفمبر 2015Linkخلال أقل من خمسة أشهر، توجه الناخبون الأتراك مرةً أخرى إلى صناديق الاقتراع لحسم حالة اللاستقرار السياسي التي شهدتها البلاد، بعد أن أفقدت الانتخابات العامة التي جرت في يونيو/حزيران الماضي حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية التي ظل يتمتع بها منذ عام 2002، والتي كانت تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا. وشكلت نتائج الانتخابات الحالية مفاجأةً كبيرة للمعارضة؛ إذ حصل حزب العدالة والتنمية على أكثر من 49% من الأصوات و317 مقعدًا من مجموع 550 مقعدًا، هي العدد الإجمالي لمقاعد الجمعية الوطنية، مقارنة بـ 40.8% من الأصوات و258 مقعدًا في الانتخابات السابقة. وقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة نحو 85%، ولم تتوقع أكثر الاستطلاعات تفاؤلًا حصول حزب العدالة والتنمية على نصف مجموع الأصوات تقريباً في انتخابات الأول من نوفمبر/تشرين ثاني؛ فأقربُ استطلاعٍ توقّعَ حصوله على 47% من الأصوات، في حين تراوحت توقعات الاستطلاعات الأخرى بين 40% إلى 44%.أما الأحزاب الثلاثة الأخرى التي تمكنت من اجتياز عتبة الـ 10% فقد حافظ حزب الشعب الجمهوري على عدد المقاعد نفسه تقريباً الذي حصل عليها في الانتخابات السابقة، وهو 134 مقعدًا، في حين تقلص عدد مقاعد حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) من 80 إلى 59 مقعدًا. وعُدَّ حزب الحركة القومية التي يتزعمه دولت بهشلي الخاسر الأكبر؛ إذ فقد نحو نصف مقاعده في البرلمان، فحصل على 40 مقعدًا مقارنة بـ 80 مقعدًا في الانتخابات السابقة.
وعند النظر في هذه النتائج يمكن التوصل إلى استنتاجات مهمة، أولها أنّ حزب العدالة والتنمية قد استعاد زمام المبادرة؛ إذ سيتمكن من حكم البلاد منفردًا، لكنه لم يحصل على الأغلبية الكافية التي تسمح له بتغيير الدستور لو أراد ذلك. ثانياً، شكلت النتائج ضربة كبيرة للأحزاب السياسية القومية التي فشلت في الحفاظ على الشعبية التي فازت بها في انتخابات الصيف الماضي. ثالثاً، منح الناخبون رصيدًا قيّماً لحزب العدالة والتنمية الذي يتعيّن عليه، بعد أن نال الدعم السياسي الضروري معالجة التحديات التي تواجه البلاد في المجالين الاقتصادي والسياسي - الأمني.
صيغة ائتلافية أم انتخابات مبكرة؟
مثلت نتائج انتخابات 7 يونيو/حزيران 2015 صدمةً لحزب العدالة والتنمية، بقيادة أحمد داود أوغلو؛ إذ خسر أغلبيته في البرلمان بحصوله على 258 مقعدًا. ومن ثمّ، تعيّن عليه التحالف مع أحد أحزاب المعارضة، أو ينتظر الدعوة إلى انتخابات أخرى مبكرة. انطوت تلك الانتخابات على رسالة تحذيرية مهمة من الناخبين الأتراك بأنّ الحزب أخذ يحيد عن البرامج والأهداف التي انتخب على أساسها، وأنّ عليه أن يدرك أنه موجود في السلطة بإرادة شعبية، وأنه يمكن أن يخرج منها وفقاً لهذه الإرادة أيضًا.
وكان من أهم الأسباب التي ساهمت في فقدان حزب العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية الإدارة السيئة للحملة الانتخابية التي بالغت في التركيز على تغيير النظام البرلماني، ليحلّ محله نظام رئاسي، وهو أمر لم يستسغه الناخب التركي، وكذلك الدفع بوجوه غير معروفة في القوائم الحزبية، وتعثّر عملية السلام مع الأكراد، والفشل في التعامل بشفافية مع مزاعم بقضايا فساد طالت بعض المسؤولين في الحزب والحكومة.
وفي ما كان حزب العدالة والتنمية يقرأ بتمعّن رسالة الناخب التركي، بدأ زعيمه أحمد داود أوغلو جولة مشاورات مع أحزاب المعارضة لتشكيل حكومة ائتلافية. وكان حزب الشعب الجمهوري قد حصل في انتخابات الصيف الماضي على 25% من الأصوات، وحزب الحركة القومية على 16.3% وحزب الشعوب الديمقراطي على 13.1%، ليتجاوز عدد مقاعدهم مجتمعين في البرلمان عدد مقاعد حزب العدالة والتنمية للمرة الأولى منذ عام 2002. ومع ذلك، كان أداء أحزاب المعارضة ضعيفًا؛ فعلى الرغم من حملتهم النشطة ضد حزب العدالة والتنمية، فإنهم فشلوا في التعاون لانتخاب رئيس للبرلمان. وقد مثّل ذلك فرصةً ضائعةً لهذه الأحزاب، لأنّ فشلهم هذا قد منح "العدالة والتنمية" فرصةً للتعافي من الصدمة. كما نجحت إستراتيجية أردوغان وداود أوغلو في منع المعارضة من الاستفادة من نصرها الانتخابي، أو الاستثمار في خسارة "العدالة والتنمية" والدفع بها نحو خيار الانتخابات المبكرة.
"العدالة والتنمية" يستعيد المبادرة
حصل حزب العدالة والتنمية على أكثر من أربعة ملايين صوتٍ في انتخابات الأول من نوفمبر/تشرين أول مقارنةً بالانتخابات السابقة، وجاءت معظم هذه الأصوات من الكتلة غير الحزبية في المجتمع التركي، والتي صوتت ضد "العدالة والتنمية" في الانتخابات السابقة. كما أنّ جزءاً مهماً من أصوات جمهور الأحزاب القومية التركية والكردية قد عادوا إلى التصويت لحزب العدالة والتنمية، بعد أن صوتوا لحزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي في 7 يونيو/حزيران. وفضلًا عن ذلك، أصبح حزب العدالة والتنمية العنوان الرئيس للناخبين المحافظين الذين صوّتوا لأحزاب أخرى في الانتخابات السابقة. وتبعاً لنتائج غير رسمية، ازدادت شعبية الحزب أكثر من 8%، جاء نصفها تقريباً من جمهور حزب الحركة القومية والربع من الأكراد. وفي حين تناقصت شعبية حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي، فإن شعبية حزب الشعب الجمهوري ازدادت فقط بنسبة 0.4% في صفوف المعارضة.
وتُظهر النتائج أنّ هناك عاملين أثّرا في سلوك الناخبين: أولًا، عدم تحمّل المجتمع التركي تبعات المخاطرة في سلوك طريق التحالف الحكومي (الصيغة الائتلافية) الذي قد يجلب مزيداً من المصاعب الاقتصادية والسياسية. ثانياً، المناخ الأمني غير المستقر الذي تسببت به هجمات حزب العمال الكردستاني خلال الصيف والصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وقد ساعد ذلك حزب العدالة والتنمية في جذب أصوات قومية كردية وتركية كثيرة.
ومن الواضح أن مؤيدي حزب الحركة القومية أرادوا منه الاستجابة لتوجهات حزب العدالة والتنمية، وأن يشكل ائتلافًا حكوميًا معه، لكنه لم يستجب لهذه الرغبة، فعوقب على رفضه. أما قواعد حزب الشعوب الديمقراطي في المناطق الكردية، فقد بدت متخوفة تجاه راديكالية هذا الحزب، وقربه من حزب العمال الكردستاني؛ إذ تعدّ أكثر تمسكًا بالاستقرار والعملية السياسية من المزاج السائد في الحزب.
أدت نتائج انتخابات 7 يونيو/حزيران 2015 في ازدياد المخاطر الاقتصادية والسياسية، نظراً لغياب حكومة منتخبة. وأصبح الاقتصاد التركي أكثر عرضة للمخاطر في الأسواق العالمية، فانخفضت قيمة الليرة التركية، ولوحظ تدفق الأموال إلى الخارج، وتباطأتْ الاستثمارات، وتفاقمت المشكلات الاقتصادية في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد على وقع هجمات حزب العمال الكردستاني التي تسببت في تعثر مسار الحياة الطبيعية اليومية.
ويبدو واضحًا أنّ حزب العدالة والتنمية استفاد من السيطرة على حصة كبيرة من وسائل الإعلام، في حين أنّ وصول المعارضة إلى أجهزة الإعلام الجماهيرية في تركيا كان محدودًا. وقد أثّر قرار منع حصول الأحزاب السياسية على أي دعمٍ من خزينة الدولة في الانتخابات المبكرة في قدرة أحزاب المعارضة على تنظيم حملات انتخابية واسعة، على غرار ما حصل في انتخابات يونيو/حزيران الماضي، في حين لم يتأثر حزب العدالة والتنمية كثيراً بهذا القرار بسبب وجود موارد مالية خاصة. كما دفع التفجير الذي وقع في أنقرة معظم الأحزاب إلى إلغاء بعض تجمعاتها الانتخابية الشعبية لأسباب أمنية. وقد تسببت جميع هذه العوامل في تقليص حضور أحزاب المعارضة في فترة الحملات الانتخابية، في حين أن المزايا النسبية التي تمتع بها حزب العدالة والتنمية سهّلت عليه الوصول إلى جمهوره على نحو أفضل. بالإضافة إلى ذلك، ساهم تجنّب الحديث عن تحويل الانتخابات إلى استفتاء على النظام الرئاسي، والتقليل من ظهور الرئيس رجب طيب أردوغان في الحملة الانتخابية، في الوصول إلى هذه النتائج. كما ساهم إلغاء الحزب قراره منع ترشّح أعضائه أكثر من ثلاث دورات انتخابية في دفع بعض رموزه الأكثر شعبية إلى حلبة المنافسة، بعد أن كانوا استبعدوا منها في الانتخابات الماضية.
تعزيز قيادة داود أوغلو
على الرغم من إشارة رئيس الحكومة، أحمد داود أوغلو، مراراً في خطاب النصر عشية الإعلان عن نتائج الانتخابات إلى محورية الرئيس رجب طيب أردوغان ودوره عندما كانت تهتف الجماهير المحتشدة لمؤسس حزب العدالة والتنمية، فإنّ نتائج الانتخابات مثلت نصراً معنوياً كبيرًا لداود أوغلو الذي قاد الحزب في مرحلة صعبة، بعد أن جرى التشكيك بقدراته، وتم التركيز على ضعفه أمام الرئيس أردوغان. وقد تعزّز موقع داود أوغلو زعيماً للحزب، ويبدو أنّ توازنًا دقيقًا سوف ينشأ بينه وبين الرئيس أردوغان في المرحلة المقبلة. كما يبدو أنّ نتائج الانتخابات وضعت حدًا في الوقت الحاضر على الأقل للجدل الدائر حول إن كان يجب الاستعانة بالرئيس السابق، عبد الله غول، بوصفه منقذًا للحزب.
وفي "خطاب الشرفة" نفسه الذي احتفل فيه مع أنصار حزبه بالنصر، عرض داود أوغلو على المعارضة التعاون لإعداد دستور جديد، للتخلص من تركة انقلاب 1980، وهو أمر بالغ الأهمية أخذًا في الاعتبار فشل الأحزاب السياسية التركية في الاتفاق على مسودة دستور بعد عام 2011. ووفقاً للنتائج الأخيرة، لا يحظى حزب العدالة والتنمية بالأغلبية اللازمة لتغيير الدستور منفردًا، أو عبر إجراء استفتاء، لأن ذلك يتطلب أغلبية 367 مقعدًا في الحالة الأولى، أو 330 مقعدًا في الحالة الثانية، الأمر الذي يُلزمه التعاون مع المعارضة إذا كان يريد تغيير الدستور أو إصلاحه. وقد يمهد أي نقاش بشأن التفاهم على دستور جديد الطريق لمناقشات حول النظامين الرئاسي والبرلماني، وهو نقاش بالغ الأهمية في ظروف تركيا الراهنة، لأنه بات من الضروري رسم خطوط واضحة بين صلاحيات كلٍ من رئيس الدولة ورئيس الوزراء.
خلال العام الماضي، تمتع الرئيس أردوغان بمساحة مناورة مهمة ليتصرف سلطة تنفيذية إلى جانب الحكومة. وتشير كل التوقعات إلى أنّ أردوغان سيستمر في موقعه المهيمن في الحياة السياسة التركية، أول رئيس منتخب شعبياً. وحتى الآن، نجح أردوغان وداود أوغلو إلى حدٍ ما في تجنب عرقلة كل منهما لخطوات الآخر؛ بيد أنه يجب، من الآن فصاعدًا، تحويل الشروط المؤسساتية بحكم الأمر الواقع أو بحكم القانون إلى محددٍ رئيسٍ للسياسة التركية.
خاتمة
هناك قضيتان ملحّتان في مقدمة أعمال الحكومة الجديدة؛ وهما الاقتصاد والقضية الكردية. فمنذ فترة طويلة، كان خبراء الاقتصاد في حزب العدالة والتنمية، مثل علي باباجان ومحمد شيمشك، يؤكدون على الحاجة إلى تقوية الاقتصاد التركي وزيادة قدرته على تحمل المخاطر. ويتطلب هذا الأمر إعداد حزمة إصلاحات مدروسة وإرادة سياسية قوية يجب أن تظهرها الحكومة الجديدة. وعلاوة على ذلك، يتعيّن على الحكومة معالجة القضية الكردية، في أقرب وقت ممكن، خصوصاً أنّ أردوغان اعتبر أنّ "العملية تجمّدت إلى حدٍ كبير"، لكنها لم تنتهِ. وتُظهر النتائج أنّ حزب العدالة والتنمية حظي بدعمٍ سياسي قوي من كل من الأكراد والأتراك في الانتخابات الأخيرة، ويمكنه، هذه المرة، العثور على محاورين جدّيين في البرلمان من أجل الوصول إلى حلٍ سياسي. إنّ مقاربة هذه المشكلة ليست مهمة من أجل السلام الداخلي في تركيا فحسب، وإنما أيضاً لعلاقتها بالتوازنات الإقليمية المتعلقة بالأوضاع في سورية والعراق.
وبصرف النظر عن هذه التحديات، هناك حاجة لخفض حدة التوتر السياسي في تركيا الذي بلغ ذروته في العامين الأخيرين بسبب السباق الانتخابي والديناميات المحلية والإقليمية. وفي هذا الصدد، يتعيّن على حزب العدالة والتنمية تبني لهجة بناءة، والتماس سياسة تشاركية في البرلمان والمجتمع. وهذا قد يساعد الحزب على توطيد سلطته، والعودة إلى "مبادئ وسياسات 2002 التي أوصلته إلى السلطة"، كما قالت قيادة الحزب في فترة الحملة الانتخابية، وذلك لأجل بناء "تركيا جديدة".
No comments:
Post a Comment