Tuesday, September 22, 2009

يوم الضحية


يوم الضحية
الياس خوري

" يجب ان يتحوّل يوم الخامس عشر من ايلول الى يوم حداد وطني فلسطيني، لأن مذبحة شاتيلا وصبرا تلخص كل تاريخ فلسطين مع الجحافل البربرية التي طردت الشعب الفلسطيني من بلاده عام 1948، بحجة الحضارة، وتحت غطاء استغل الضحية اليهودية في الحرب العالمية الثانية، وخلال المحرقة النازية الوحشية، من اجل اضفاء الشرعية على مشروع كولونيالي استيطاني من النوع الكلاسيكي.
شاتيلا وصبرا كشفت وجه القاتل. قبل مذبحة المخيمين كان علينا ان ندخل في مماحكات لا نهاية لها مع رأي عام عالمي اصم، كي نثبت انهم قتلونا وشردونا واستباحوا الأحياء والاموات. اما في تلك الأيام الثلاثة من عام 1982، فلقد وصلت الغطرسة بالقاتل الى حد انه نسي خطاب النعاج الذي برر به كل جرائمه السابقة. انتفخ شارون بالقوة ورائحة الدم، ليعلن ان الأمن القومي الاسرائيلي يمتد من باكستان الى المغرب الأقصى. وان هذا الأمن لا يكتمل الا على جثث الفلسطينيين. وكانت تلك المذبحة المروعة علامة التحوّل في اسرائيل. صحيح ان آخر رجال مرحلة المؤسسين اصيب بالهلع، وانتهى مناحيم بيغن في انهيار عصبي اوصله الى حافة الجنون، لكن المؤسسة العسكرية الاسرائيلية، كشفت عن وجهها ولم تعد تبالي بصورة الضحية، وبقناع اسمها الذي اطلق على احد اكثر الجيوش عدوانية في التاريخ المعاصر، اسم جيش الدفاع الاسرائيلي. انزلت اسرائيل القناع عن وجهها، وهي ابتداء من عام 1982 تلغ في الدم الفلسطيني، من دون اي محاولة للاختباء خلف لغتها القديمة.
مذبحة شاتيلا وصبرا كانت نقطة التحول الكبرى. بعدها لبست اسرائيل ثوب الجريمة من دون مواربة. والجرائم لا تعد ولا تحصى، من قانا في لبنان، ومن جنين الى غزة في فلسطين. ممارسات جعلت مجلس حقوق الانسان في الأمم المتحدة يسمي حرب غزة جريمة ضد الانسانية.
شاتيلا وصبرا لم تكن نقطة تحول في اسرائيل فقط، بل منعطفا في تاريخ الفلسطينيين وفي وعيهم لذاتهم وقضيتهم. يستطيع المؤرخ ان يجد صلة سببية بين مخيم شاتيلا وبين الانتفاضة الأولى. فالمخيم الذي عاش المجزرة سوف يتعرض خلال حرب المخيمات الاجرامية لحصار ودمار لا مثيل لهما. يكفي ان نزور اليوم ما تبقى من المخيم كي نكتشف مقبرتين جماعيتين: مقبرة مذبحة 1982، والجامع الذي تحول الى مقبرة خلال حرب المخيم وحصاره الطويل عام 1986. لا شك ان الانتفاضة الاولى، او ما نطلق عليه اليوم اسم انتفاضة اطفال الحجارة، شكلت نوعا من التصادي مع مأساة المخيم الطويلة، ولا شك ايضا، ان الوعي الفلسطيني، اكتوى بنار المذبحة بحيث صارت صبرا وشاتيلا محطة كبرى في ذاكرة المأساة.
شاتيلا وصبرا اكثر من مذبحة، انها اشارة الى المصير الذي تريده المؤسسة العسكرية الاسرائيلية للشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك اليوم الأسود، ورغم كل وعود السلام الكاذبة، والفلسطينيون يعيشون في مواجهة مصير الابادة السياسية. انكشف المستور في ايلول 1982، ثم انكشف مرة ثانية واخيرة في مذبحة مخيم جنين. صار الفلسطينيون ضحية مطلقة. وتحوّل وعي الضحية الى وعي شعب كامل.
وعي الضحية، الذي تأسس في شاتيلا، هو السمة الرئيسية لوعي الثقافة الفلسطينية لنفسها. وهذا ما يرسمه الأدب الفسطيني في شكل واضح، ولعل النتاج الشعري الأخير لمحمود درويش يشكل علامة تحوّل كبرى، كانت قد وجدت مقدماتها في ادب كنفاني وحبيبي وفي شعر راشد حسين وتوفيق زياد وسميح القاسم.
وعي الضحية وتفوقها الأخلاقي على المجرم هو عنوان الوعي الفلسطيني لذاته. كل وعي آخر هو تزييف للواقع وتعمية. فالشعب الفلسطيني مطروح على رصيف التاريخ، ومأساته المستمرة ونكبته المتواصلة منذ ستين عاما هي اسمه، ومن عتمتها ينبثق حلمه بالعدالة والحرية.
من هنا يجب ان تتحول ذكرى شاتيلا وصبرا الى يوم وطني فلسطيني اولا وعربي ثانيا. وهنا تقع مسؤولية المجتمع المدني الفلسطيني من اجل تحويل هذه الذكرى تقليدا وطنيا، لا ان تبقى حدثا هامشيا يقوم به مناضلون مؤيدون للحق الفلسطيني في بيروت.
نعم يوم وطني آخر يضاف الى يومي النكبة والأرض. انه يوم الضحية، التي تتحدى عدالة التاريخ العمياء كي تصنع عدالتها.
"

No comments: