حسام كنفاني
"دارت عجلة المفاوضات رغم أنف الرافضين، أو مدّعي الرفض. والرافضون هنا هم المسؤولون الفلسطينيون أنفسهم، الذين أشبعونا في الأيام الأخيرة شروطاً وتدلّلاً أوحى لفترة وجيزة أنّ هذه القيادة بدأت بمراجعة خياراتها، وتنحو باتجاه التراجع عن المسار الذي رسمته لنفسها.
الإيحاء كان واهياً بالتأكيد. فالقيادة الفلسطينية تبدو ذاهبة إلى طاولة المفاوضات باندفاعة غير مسبوقة تخالف كل ما قيل وروّج في المرحلة الماضية. اندفاعة عنوانها «نحن شركاء، وأنتم؟». العبارة الأخيرة هي جوهر الحملة الإعلامية التي أطلقها مسؤولو السلطة في التلفزيونات والإذاعات الإسرائيلية، وعلى طرقات الدولة العبرية وشوارعها، للتوجّه إلى «الجمهور الإسرائيلي» وإقناعه بإمكان إتمام السلام.
كلام كثير في الحملة الإعلامية يصدر عن كبار «القادة» الفلسطينيّين، في مقدمتهم رئيس السلطة محمود عباس، ورئيس الحكومة سلام فياض، ووزير الخارجية رياض المالكي وجبريل رجوب وياسر عبد ربه وصائب عريقات. حملة تحمل الكثير من الرسائل والدلالات، ربما في مقدمتها الكشف عن مدى نفاق السلطة في «دلالها» التفاوضي، ولا سيما أن الحملة تبدو مبرمجة منذ مدة، وليست وليدة «اللحظة التاريخية» حين أعلن محمود عبّاس موافقته على بيان الرباعية ودعوة هيلاري كلينتون، ربما قبل صدورهما.
الحملة أميركية والرعاية إسرائيلية. هذا ما تشير إليه تفاصيلها، ولا سيما أنها ممولة بالكامل من الولايات المتحدة عبر منظمة «يو اس ايد» بقيمة مليون شيكل، وتنفّذ بإشراف «مبادرة جنيف» السيئة الذكر، التي أسسها يوسي بيلين وياسر عبد ربه.
قد يكون كلام صائب عريقات في الحملة عيّنة من «الشراكة» المبتغاة من جانب السلطة الفلسطينية. عريقات يبدأ «دوره» في الشريط المصوّر بعبارة «أنا شريككم». أبو علي لا شكّ يعبّر عن نفسه بشفافيّة. هو شريك قديم للإسرائيليين باعتباره رئيس دائرة المفاوضات، كما أن غيره من المسؤولين الفلسطينيين «شركاء» للإسرائيليّين في التجارة والاستيطان وبناء الجدار وغيرها من الأمور الاقتصادية، التي لا تدخل في نطاق «العداوة» بما أن التجارة لا تعترف إلا بالمصالح الشخصيّة.
من هذا المنطلق، فإن حديث عريقات عن «الشراكة التفاوضية» سيكون مقبولاً إلى حدّ ما، لكنه لم يقف عند هذا الحد في رسالته «الإقناعيّة»، بل زاد عليها ما يشبه الاعتذار «للشعب الإسرائيلي»، فهو توجّه إليه قائلاً «أعلم أننا خيّبنا أملكم على مدى التسع عشرة سنة الماضيّة»، قاصداً تاريخ المفاوضات منذ مؤتمر مدريد. من «نحن» هنا ومن «أنتم». من هو خائب الأمل؟ ومن هو المذنب؟
من المؤكّد أن عريقات لا يقصد إلا «نحن» الفلسطينيين و«أنتم» الإسرائيليين، ما دامت الرسالة موجّهة إليهم. «نحن» خيّبنا أملكم لأننا لم نكن هذا الشعب المحتل الودود طيلة سنوات الاحتلال الطويلة. خيّبنا أملكم لأننا كنا نصرخ في وجوه جنودكم الغازين، وبعضنا كان يواجههم بالبنادق بدل الورود. خيّبنا أملكم لأننا لم نكن نموت بسرعة، وكنا نواظب على التمسك بأرضنا والوقوف في وجه دباباتكم وجرافاتكم التي تأتي لجرف منازلنا وتدمير مزروعاتنا لبناء مستوطناتكم «الحضارية» على أنقاض قرانا «المتخلّفة».
خيّبنا أملكم لأنّ بعض شعبنا لا يؤمن بـ«أرض إسرائيل»، التي يؤمن بها أبو مازن ويرفض عدم الاعتراف بأحقيّة اليهود فيها. فعلاً خيبنا أملكم لأنّ لاجئينا لا يزالون يحتفظون بصكوك أراضيهم ومفاتيح بيوتهم ويصرّون على «وهم» العودة لتهديد واقعكم الديموغرافي الهش. وأخيراً، خيّبنا أملكم لأننا لم نقدّم المزيد من التنازلات على طاولة المفاوضات، ولأننا تمسكنا بالعشرين في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، ربما كان يجدر بنا الاكتفاء بعشرة في المئة أو أقل، عندها كنا سنكون عند حسن ظنكم بنا.
هل هذه هي خيبة التي يريد أن يعبّر عنها صائب عريقات؟ لا يمكن أن يُفهم منها غير ذلك. ربما كان من الأجدر بالأخ أبو علي أن يوفر مثل هذه الرسالة للشعب الفلسطيني الأجدى برسالة الاعتذار السلطوية. هذا الشعب يستحق من عريقات وسائر أركان «القيادة» الفلسطينية تلاوة فعل الندامة. يستحق الإقرار بأن السلطة خيّبت أمله، وخانت طموحاته، واستهترت بحقوقه وضيّعت مكتسباته. ومن الواجب أيضاً أن تعتذر هذه القيادة، بشقّيها الفتحاوي والحمساوي، للشعب الفلسطيني عن مأساة الانقسام التي أدخلت القضية في نفق لن تخرج منه لا بالمفاوضات ولا بالمقاومة.
مع ذلك فالقيادة لا تبدو معنية بهذا الاعتذار الإقرار بالذنب، هي معنية فقط بالشراكة مع شعب إسرائيل. شراكة قد تترجمها في واشنطن عبر التكفير عن «أخطاء الماضي» والتعويض عن خيبة الأمل بإبداء المزيد من المرونة والليونة في المواقف.
«نحن شركاء، وأنتم؟» رسالة القيادة الفلسطينية إلى الإسرائيليّين. أما رسالة الشعب الفلسطيني إلى قيادته، فلا بد أن تكون «أنتم شركاء... في الاحتلال». "
"دارت عجلة المفاوضات رغم أنف الرافضين، أو مدّعي الرفض. والرافضون هنا هم المسؤولون الفلسطينيون أنفسهم، الذين أشبعونا في الأيام الأخيرة شروطاً وتدلّلاً أوحى لفترة وجيزة أنّ هذه القيادة بدأت بمراجعة خياراتها، وتنحو باتجاه التراجع عن المسار الذي رسمته لنفسها.
الإيحاء كان واهياً بالتأكيد. فالقيادة الفلسطينية تبدو ذاهبة إلى طاولة المفاوضات باندفاعة غير مسبوقة تخالف كل ما قيل وروّج في المرحلة الماضية. اندفاعة عنوانها «نحن شركاء، وأنتم؟». العبارة الأخيرة هي جوهر الحملة الإعلامية التي أطلقها مسؤولو السلطة في التلفزيونات والإذاعات الإسرائيلية، وعلى طرقات الدولة العبرية وشوارعها، للتوجّه إلى «الجمهور الإسرائيلي» وإقناعه بإمكان إتمام السلام.
كلام كثير في الحملة الإعلامية يصدر عن كبار «القادة» الفلسطينيّين، في مقدمتهم رئيس السلطة محمود عباس، ورئيس الحكومة سلام فياض، ووزير الخارجية رياض المالكي وجبريل رجوب وياسر عبد ربه وصائب عريقات. حملة تحمل الكثير من الرسائل والدلالات، ربما في مقدمتها الكشف عن مدى نفاق السلطة في «دلالها» التفاوضي، ولا سيما أن الحملة تبدو مبرمجة منذ مدة، وليست وليدة «اللحظة التاريخية» حين أعلن محمود عبّاس موافقته على بيان الرباعية ودعوة هيلاري كلينتون، ربما قبل صدورهما.
الحملة أميركية والرعاية إسرائيلية. هذا ما تشير إليه تفاصيلها، ولا سيما أنها ممولة بالكامل من الولايات المتحدة عبر منظمة «يو اس ايد» بقيمة مليون شيكل، وتنفّذ بإشراف «مبادرة جنيف» السيئة الذكر، التي أسسها يوسي بيلين وياسر عبد ربه.
قد يكون كلام صائب عريقات في الحملة عيّنة من «الشراكة» المبتغاة من جانب السلطة الفلسطينية. عريقات يبدأ «دوره» في الشريط المصوّر بعبارة «أنا شريككم». أبو علي لا شكّ يعبّر عن نفسه بشفافيّة. هو شريك قديم للإسرائيليين باعتباره رئيس دائرة المفاوضات، كما أن غيره من المسؤولين الفلسطينيين «شركاء» للإسرائيليّين في التجارة والاستيطان وبناء الجدار وغيرها من الأمور الاقتصادية، التي لا تدخل في نطاق «العداوة» بما أن التجارة لا تعترف إلا بالمصالح الشخصيّة.
من هذا المنطلق، فإن حديث عريقات عن «الشراكة التفاوضية» سيكون مقبولاً إلى حدّ ما، لكنه لم يقف عند هذا الحد في رسالته «الإقناعيّة»، بل زاد عليها ما يشبه الاعتذار «للشعب الإسرائيلي»، فهو توجّه إليه قائلاً «أعلم أننا خيّبنا أملكم على مدى التسع عشرة سنة الماضيّة»، قاصداً تاريخ المفاوضات منذ مؤتمر مدريد. من «نحن» هنا ومن «أنتم». من هو خائب الأمل؟ ومن هو المذنب؟
من المؤكّد أن عريقات لا يقصد إلا «نحن» الفلسطينيين و«أنتم» الإسرائيليين، ما دامت الرسالة موجّهة إليهم. «نحن» خيّبنا أملكم لأننا لم نكن هذا الشعب المحتل الودود طيلة سنوات الاحتلال الطويلة. خيّبنا أملكم لأننا كنا نصرخ في وجوه جنودكم الغازين، وبعضنا كان يواجههم بالبنادق بدل الورود. خيّبنا أملكم لأننا لم نكن نموت بسرعة، وكنا نواظب على التمسك بأرضنا والوقوف في وجه دباباتكم وجرافاتكم التي تأتي لجرف منازلنا وتدمير مزروعاتنا لبناء مستوطناتكم «الحضارية» على أنقاض قرانا «المتخلّفة».
خيّبنا أملكم لأنّ بعض شعبنا لا يؤمن بـ«أرض إسرائيل»، التي يؤمن بها أبو مازن ويرفض عدم الاعتراف بأحقيّة اليهود فيها. فعلاً خيبنا أملكم لأنّ لاجئينا لا يزالون يحتفظون بصكوك أراضيهم ومفاتيح بيوتهم ويصرّون على «وهم» العودة لتهديد واقعكم الديموغرافي الهش. وأخيراً، خيّبنا أملكم لأننا لم نقدّم المزيد من التنازلات على طاولة المفاوضات، ولأننا تمسكنا بالعشرين في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، ربما كان يجدر بنا الاكتفاء بعشرة في المئة أو أقل، عندها كنا سنكون عند حسن ظنكم بنا.
هل هذه هي خيبة التي يريد أن يعبّر عنها صائب عريقات؟ لا يمكن أن يُفهم منها غير ذلك. ربما كان من الأجدر بالأخ أبو علي أن يوفر مثل هذه الرسالة للشعب الفلسطيني الأجدى برسالة الاعتذار السلطوية. هذا الشعب يستحق من عريقات وسائر أركان «القيادة» الفلسطينية تلاوة فعل الندامة. يستحق الإقرار بأن السلطة خيّبت أمله، وخانت طموحاته، واستهترت بحقوقه وضيّعت مكتسباته. ومن الواجب أيضاً أن تعتذر هذه القيادة، بشقّيها الفتحاوي والحمساوي، للشعب الفلسطيني عن مأساة الانقسام التي أدخلت القضية في نفق لن تخرج منه لا بالمفاوضات ولا بالمقاومة.
مع ذلك فالقيادة لا تبدو معنية بهذا الاعتذار الإقرار بالذنب، هي معنية فقط بالشراكة مع شعب إسرائيل. شراكة قد تترجمها في واشنطن عبر التكفير عن «أخطاء الماضي» والتعويض عن خيبة الأمل بإبداء المزيد من المرونة والليونة في المواقف.
«نحن شركاء، وأنتم؟» رسالة القيادة الفلسطينية إلى الإسرائيليّين. أما رسالة الشعب الفلسطيني إلى قيادته، فلا بد أن تكون «أنتم شركاء... في الاحتلال». "
No comments:
Post a Comment