Friday, March 4, 2011

عندما هبّت الجماهير في «الجماهيريّة»: الأخضر يتخضّب


A VERY GOOD PIECE
By As'ad Abu Khalil

"سقط زعيم مهرّجي الطغاة، مهما طال الانتظار. مسرحيّة «الجماهيريّة» آيلة إلى السقوط في أي لحظة. الستارة ستُسدل على العقيد وأولاده. قُل قائد الثورة يحتضر، وما ينطق به هو وأولاده ما هو إلا حشرجة. طغاة العالم العربي يسقطون أو يترنّحون واحداً تلو الآخر. لا النفط سيحميهم، ولا الراعي الأميركي. لكن القذّافي نموذج فريد من طغاتنا. كلّهم مُنفّرون في شخصيّاتهم وغرابة أطوارهم. لم يُمنّ علينا بطغاة ظرفاء أو ذوي شخصيّات ساحرة أو آسرة. طغاتنا عقدٌ نفسيّة تمشي على صدورنا وتمنع عنّا الهواء
....
التهريج والانحناء سمتان من سمات طغاتنا منذ وصول السادات إلى السلطة، إن لم يكن قبل. لكن القذّافي كان أكثر إيلاماً، ربّما لأنه روّج لنفسه على أساس أنه ثوري ووحدوي ومُنظّر. وأنفق القائد ملايين على نشر صوره وملصقاته وعلى عبادة الغير له. عانى الطاغية القذّافي، مثله مثل الطاغية صدّام حسين، من عقدة عبد الناصر وأنفقا مليارات لتقليده. يمكن القول إنّ جيل الطغاة العرب، جمهوريّين وملكيّين، منذ حقبة السبعينيات، يعاني من عقدة جمال عبد الناصر.
.....
القذّافي كان يفرض على من يريد أن يقابله من الناشرين، المُتلقّين لعطاياه، إجراء مقابلات «فكريّة» طويلة جدّاً، أي فرض حوار يدور حول «الكتاب الأخضر»، من دون إبداء علامات السأم القاتل. ساعات من الحوارات المملّة عن تفاصيل «الكتاب الأخضر» وعن تفسيرات عجائبيّة لكاتبها المشعوذ. كتب ومقالات عن «الكتاب الأخضر»، نال كاتبوها عطايا جزيلة
.....
والخطيئة الكُبرى كانت في حرب القذّافي في تشاد: عندما طالب القذّافي مُتلقّي عطاياه في الساحتيْن اللبنانيّة والفلسطينيّة بإرسال مُقاتلين «متطوّعين»: لبّى الدعوة إنعام رعد (قد يكون أسوأ من تزعّم الحزب القومي في تاريخه) ووليد جنبلاط وجورج حاوي وأحمد جبريل. أيّ أنّ هؤلاء وافقوا على تحويل مُقاتلين مُنخرطين (نظريّاً على الأقل) طوعاً في حرب أهليّة بأفق وطني تغييري، إلى مرتزقة في خدمة الطاغية الليبي وحروبه العبثيّة
.....
ينتهي بنهاية عهد القذّافي جيل من الطغاة العرب. لا مكان بعد اليوم للتقليد النافر لجمال عبد الناصر. لن يطلع طاغية يظن أنّه، بأموال النفط، يستطيع أن يصبح زعيم العرب الأوحد. بمال النفط، تستطيع أن تشتري أقلاماً وإعلاماً وضمائر وأبواقاً، لكن لا تشتري جماهير (باستثناء الجماهير الطائفيّة). يستطيع الطاغية بشركات النفط أن يحيط نفسه بفريق من المستشارين الذين يقنعونه بعظمته وبقدرته على حكم العالم العربي على أقلّ تقدير، لكن شيئاً ما تغيّر عند الجيل العربي الجديد. ما عادت المقولات نفسها تنفع
.....
لم يسقط القذّافي بعد، لكن شعبه نجح إلى الآن في إظهار مدى كراهيته واحتقاره للطاغية. قد يكون مشهد تحطيم تمثال «الكتاب الأخضر» في بنغازي علامة الإشارة الى انطلاقة الثورة. القذّافي يردّد كلاماً ماضياً له، أنّ شعبه يحبّه ويفتديه بدمه (كما أخبر كريستيان أمنبور)، لكن طلال سلمان ذكر كلاماً له من بداية السبعينيات يصف فيه الشعب الليبي بـ«الحمير». لا شك أنّ لكلّ انتفاضة عربيّة توقيتها وشرارتها، والمسألة برسم التأريخ. يمكن تقريب وصف تحليلي لشرارات الانتفاضات العربيّة (في مقالة لاحقة)، والحالة الليبيّة ستتطرّق بالتأكيد إلى استدارات القذّافي وهذيانه المُتناقض مع سياساته التي ترسخت في عهد بوش. كما أنّ العائلة الحاكمة التي أسّسها شكّلت إهانة للشعب الليبي، وخاصة أنّه يُقال له منذ السبعينيات إنّه يعيش في «جماهيريّة»، وهي من المُفترض أن تكون أعلى مرتبة من الجمهوريّة. ناء الشعب الليبي بحمل عائلة حاكمة وأفكار العقيد البالية.
بقي القذّافي في الحكم لنحو أربعين عاماً أو أكثر قليلاً، ولم يترك وراءه إلا عذابات شعب خلاق. لم يبق من بنية الجماهيريّة المُتضعضعة إلا الاستخبارات وأجهزة القمع المُتسربلة بأسماء مُستقاة من مصطلحات الشعب والجماهير. حتى الجيش الذي أتى من خلاله إلى السلطة لم يثق به، وأضعفه العقيد ــ وهنا المفارقة لأنّه لم يترك ما يحميه في الحكم إلا عصابات العائلة وعصائبها. ولم ينس الحاكم الليبي، مثله مثل الحكام العرب، التلاعب بالعصبيّة القبليّة وتنميتها. هؤلاء يأتون إلى الحكم ولا يوقفون الزمن: يأخذونه إلى ماضٍ سحيق. التطوّر يخيفهم. قد تكون الانتفاضات العربيّة بداية لشيء أكبر. قد تبدأ ثورات حقيقيّة تطيح الموروث والموجود والمُبتدع. ولكن، متى يقتحمون «الباستيل» في العالم العربي؟ متى تُدكّ الأسوار بقوّة حتى لو خدشت مشاعر ليبراليّي اللاعنف في المنطقة؟
"

No comments: