Friday, November 13, 2015

حرب باردة أو أفغانستان جديدة أم حل سياسي؟

سلامة كيلة
حرب باردة أو أفغانستان جديدة أم حل سياسي؟
Link

ربّما كان التدخل العسكري الروسي في سورية مفاجئاً لأميركا، حيث كانت الأمور تسير في اتجاه التحضير لمؤتمر جنيف 3 برعاية روسية كاملة، ولم يوحِ اللقاء بين الرئيسين، الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين، على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أن روسيا تحضّر لما هو مفاجئ، على الرغم من ظهور اختلاف في موقفي الطرفين من دور بشار الأسد في المرحلة الانتقالية.
وبهذا التدخل، ظهر أن الخلاف كبير بين من يريد التقدم في الحل السياسي ومن يريد الحسم العسكري لمصلحة النظام السوري، على الرغم من أن أميركا كانت تدعم حلاً روسيا. وظهر أن روسيا كانت تناور في حواراتها مع أميركا، وتريد أكثر مما تقترحه الأخيرة، خصوصاً أنها اندفعت إلى تحقيق "شبه تحالف" مع كل من إيران والعراق والنظام السوري، وبدت أنها ستتدخل في العراق كما تدخلت في سورية، وتحت الراية نفسها: الحرب على داعش. لا شك في أن ذلك كله يخلّ بالاستراتيجية الأميركية التي مورست منذ التدخل "ضد داعش" صيف 2014، وربما يكشف بعض مشكلاتها، ويظهر كذلك أن روسيا تسير نحو تشكيل تحالف آخر، يفرضها قوة مهيمنة في "الشرق الأوسط".
انبنت الاستراتيجية الأميركية منذ توصلت الإدارة إلى أن الأزمة المالية التي انفجرت، في سبتمبر/ أيلول 2008 لا حلّ لها، والتي قررت إدارتها بما يسمح تأخير حدوث انفجار فقاعات جديدة، أو التخفيف من آثار أي انهيار جديد، انبنت الاستراتيجية على تحديد الأخطار التي ستنتج عن تراجع قدراتها، فأتبعت استراتيجية تنطلق من أن الخطر الممكن سيأتي من الصين. لهذا، أصبحت تبني منظورها العالمي على أساس ترتيب علاقاتها بما يجعلها قادرة على حصار الصين. وفي سياق ذلك، أصبح التحالف مع روسيا ضرورة أميركية، وكذلك التحالف مع إيران، لأن كسب البلدين يعني تحقيق حصار الصين، طبعاً إضافة إلى تمركز قواتها في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وتعزيز تحالفها مع دول تلك المنطقة التي انتهت بتوقيع اتفاق تجارة حرة مع بلدانها. ولأنها قررت الانسحاب من "الشرق الأوسط" (عدا الخليج والعراق) فقد أصبح في وسعها المناورة، عبر "التخلي" عن بعض مناطق الشرق الأوسط لروسيا، وتحقيق بعض مصالح إيران. 
نشطت أميركا في السنوات الأربع الماضية في هذا المسار، وكان واضحاً، منذ بداية سنة 2012، أنها تدعم دوراً روسياً في سورية. ولقد نشطت من أجل نجاح ذلك، من خلال تطويع المعارضة السائرة في ركابها، لكي تقبل دوراً روسياً وسيطرتها على سورية. وكما أشرنا، مراراً، فقد شلت كل إمكانية لتدخل خارجي أو أي دعم نوعي للكتائب المسلحة، أو السماح بسقوط النظام. وعلى الرغم من أزمة أوكرانيا والخلاف الذي تبعها، ومن ثم العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على روسيا، ظلت تحاول معها الوصول إلى توافق، في أوكرانيا كما في سورية، وفي مجمل السياسات العالمية. وحين جرى التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، سعت إلى الوصول إلى توافق يتعلق بالوضع الإقليمي، خصوصاً وأن تدخلها في العراق "ضد داعش" كان يهدف إلى تغيير معادلة السلطة العراقية، بما يعيد هيمنتها عليها، وبالتالي، تقزيم الهيمنة الإيرانية. وبعد أكثر من عام على "الحرب ضد داعش"، كان قد توضّح أنها تناور بهذه الحرب، من أجل مكاسب سياسية أكثر من أنها تخوض حرباً حقيقية. وفي سورية، كان يظهر الأمر نفسه. لكن، هنا من أجل ترتيب سلطة تهيمن روسيا عليها، وتشمل إبعاد إيران. وفي كل هذه السياسة، كانت أميركا قد همّشت تركيا وحاصرتها، وظهر أنها لا تريد أن يكون لها أي دور في سورية.
بعد ذلك، فوجئت بسياسة روسية مختلفة، ليظهر أن المنظور الأميركي لطبيعة العلاقة بين 

الطرفين لا يروق لروسيا التي يبدو أنها لا تريد أن تكون "في ظل" السياسة الأميركية، كما كانت طوال عقدين بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي، بل تريد أن ترث الدور الأميركي، خصوصاً هنا في "الشرق الأوسط". لهذا تريد تشكيل تحالفات "مستقلة"، لا ترضي أميركا، كما فعلت، حين أعلنت عن تشكيل "مركز أمني"، يضم إيران والعراق وسورية، للتنسيق "ضد داعش"، وطرحت التدخل في العراق، كما فعلت في سورية. وعلى الرغم من أن تدخلها تحت عنوان "الحرب ضد داعش"، كما فعلت أميركا، فقد خاضت روسيا الحرب ضد الكتائب المسلحة التي تقاتل النظام السوري، والتي حققت تقدماً مهماً في الأشهر السابقة، فرض تغيير موازين القوى، ووضع النظام على شفير الانهيار، لكن هذه السياسة المعنونة حرباً ضد داعش أربكت السياسة الأميركية في كل الأحوال، خصوصاً أنها ربما تمتدّ إلى العراق. فكما كرّرنا مراراً، تلعب أميركا بداعش لتغيير وضع السلطة في العراق. ولهذا، سيكون الدخول الروسي على هذا الخط، وهو لعب بداعش كذلك، مربكاً لتلك السياسة، وكاشفاً عن كنهها، كونها ليست حرباً ضد داعش، بل حرب بها لخلخلة النظام العراقي، وإعادة تركيبه لمصلحتها. وبهذا، تختل كل السياسة الأميركية، وربما تسير نحو الفشل. في سورية ربما، لا تكترث أميركا كثيراً لكيفية تحقيق السيطرة الروسية، لكن وضع العراق مختلف. لهذا، ليس من السهل أن تقبل الدور الروسي الجديد. وهذا ما جعلها تضع الفيتو على "التحالف الجديد"، وتحاول إرباك القوى التي تقاتل داعش، لتبيان عجزها دون الدور الأميركي.
أدى هذا الأمر إلى فتور في العلاقة بين البلدين، حيث رفضت أميركا تنسيق النشاط العسكري سوى أدنى شكل، لكي لا يحدث التصادم بين طائرات البلدين التي تملأ سماء سورية. لكن، لا يبدو ذلك كافياً لأميركا التي فرض عليها الوضع الجديد تغيير تكتيكها تجاه داعش، أولاً. لهذا، باتت تسرّب على أنها تحضّر لاستعادة الرقة عبر دعم تحالفٍ جديدٍ، عماده قوات حماية الشعب الكردية التي تسلّمت خمسين طناً من الأسلحة أخيراً. وربما تسعى إلى إنهاء وجود داعش في سورية لسحب هذه الورقة من يد روسيا. لكن، ربما تتطور الأمور نحو دعم كتائب مسلحة بأسلحة نوعية، خصوصاً هنا صواريخ مضادة للطائرات (ستينجر)، لتقزيم القدرة الروسية التي لم تحقق تغيراً نوعياً على الأرض على الرغم من كثافة الغارات وخطورة الأسلحة التي تستخدمها. وهذا خيار يمكن أن تستفيد أميركا منه، حيث سيبدو أن الأمور لم تعد في وارد العودة إلى الوراء، بل اختلّ ميزان القوى ولن يغيّر في الأمر كل التدخل الروسي.
لكن، يبدو أن أميركا ما زالت تراهن على تفاهم مع روسيا، وليس عودة إلى الحرب الباردة، ويبدو أنها لن تقدم على دعم الكتائب المسلحة بأسلحة نوعية، إلا إذا لم تتجاوب روسيا مع مسعاها في تحقيق حل سياسي في سورية. لقد دعا وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى عقد لقاء خماسي، يضم أميركا وروسيا والسعودية وتركيا والأردن، لبحث الوضع السوري، ثم عقد لقاء موسع بعد أسبوع، أصدر بياناً تناول بعض التوافقات، وأقر اللقاء من جديد بعد أسبوعين. وهي تعمل على أن تدفع روسيا نحو حل سياسي، بدل الاستمرار في حربٍ، لا يبدو أن لها أفقاً، خصوصاً بعد ما ظهر في أسابيعها الثلاثة من عجز عن تحقيق تغيير مهم في ميزان القوى على الأرض. وهو مسار من أجل عدم تطوير الصراع مع روسيا، على العكس من أجل ضبط حركتها، ودفعها بعد أن باتت قوة مسيطرة في سورية إلى أن تحقق الحل القائم على أساس مبادئ جنيف1، وإن بدا أن هناك "مرونة" في قبول مرحلي لبشار الأسد، وهو ما ظهر أن هناك توافقاً إقليمياً ودولياً عليه، ظهر في تصريحات سعودية وتركية وأوروبية.


إذن، باتت روسيا على محك الوصول إلى حل بعد أن مسكت الأرض، وهمّشت سيطرة إيران، أو أنها سوف تغرق في صراع "أفغاني". وربما كان استدعاؤها بشار الأسد وحيداً، واتصالاتها التالية لذلك، تكون في مسار يفضي إلى حل، على الرغم من كل الوحشية التي ما زالت طائراتها تقوم بها ضد الشعب السوري، وعلى الرغم من استمرار محاولاتها تغيير ميزان القوى. في المقابل، صممت أميركا على إبعاد الدور الروسي من العراق، ويبدو أنها هددت الحكومة، ما جعلها تعلن أن التوافق الذي تحقق هو فقط "تنسيق أمني"، بعد زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيوش الأميركية، لكنها تدفع نحو تحقيق حل سياسي سريع في سورية، وربما يسبق ذلك عملها على إنهاء وجود داعش في الأرض السورية. ما يمكن أن يعقد الأمر هو الموقف الروسي نفسه، فهل الروس جادون في تحقيق الحلّ؟ وهل إصرارهم على "بقاء مؤقت" للأسد مناورة، يمكن أن تكون تكراراً لما حدث في اليمن مع علي عبدالله صالح؟


أظهر التدخل العسكري الروسي، أن الوضع يميل إلى التصعيد، وربما أظهر حالة صراع جديدة بين أميركا وروسيا، ما يستجلب عادة ذكرى الحرب الباردة. لكن، بدت الأمور كأنها تسير نحو حل سياسي، بعد أن تمكن الروس من سورية. في كل هذه المناورات، يأتي الأمل في الوصول إلى حل بدل استمرار الصراع، ربما بوحشية أكبر بعد التدخل العسكري الروسي. فإما الحل الآن، أو ستسير الأمور نحو "أفغانستان" جديدة.

No comments: