Link
بعد نحو أسبوعٍ من اجتماع فيينا الرباعي الأول الذي عقده وزراء خارجية السعودية وتركيا وروسيا والولايات المتحدة، لمناقشة سبل التوصّل إلى حلٍ سياسي، لإنهاء الأزمة السورية، تمكّن اجتماع فيينا الثاني الذي عقد في 30 أكتوبر/ تشرين أول 2015، وجرى توسيعه ليضمّ جميع الدول الفاعلة، أو ذات العلاقة بالمسألة السوريّة، بما فيها إيران، من التوصّل إلى بيانٍ من تسع نقاطٍ، مثّلت الخطوط العامة للحل السياسي المرتقب في سورية. وخرج اجتماع فيينا الثالث الذي عُقد في 14 نوفمبر/تشرين ثاني 2015، وضمّ 17 دولة، إضافة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، بتوافق إقليمي ودولي، تمثّل في إصدار بيانٍ تضمّن خارطة طريقٍ مرفقة ببرنامجٍ زمني، لتطبيق الحل السياسي في سورية، وفق مسارين متوازيين؛ يدعو الأول إلى إطلاق عملية سياسية، تؤدي إلى وضع حدٍ للصراع المستمر منذ نحو خمس سنوات، فيما يدعو الثاني إلى توحيد الجهد الدولي والإقليمي، لمواجهة التطرف والجماعات الإرهابية.
مساران متوازيان للحل
شكلت فكرة التوازي بين مسار الحل السياسي ومكافحة الإرهاب مخرجاً توافقياً بين الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة السورية، لإعادة صوغ مقترح روسيا الذي استند إلى إحساسٍ "بفائض قوة"، نجم عن تدخلها العسكري في سورية، ومحاولتها تغيير موازين القوى على الأرض، وفرض حلٍ سياسي، يتناسب مع رؤيتها للصراع، ويتخذ من الحرب على الإرهاب، وتوسيع قائمة التنظيمات الإرهابية المستهدفة في سورية، مدخلًا رئيسًا لذلك. فقد أكد بيان فيينا على ضرورة أن تتفق الدول المجتمعة على تحديد الفصائل والجماعات العاملة في سورية التي ستدرج على قوائم الإرهاب. وأوكل إلى الأردن مهمة العمل على إعداد هذه القائمة، بمساعدة عدد من ممثلي مخابرات الدول المشاركة، وذلك قبل انطلاق العملية السياسية. وقد استفاد الجانب الروسي من تفجيرات باريس التي وقعت عشية اجتماع فيينا الأخير، وإعلان تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" مسؤوليته عنها، للدفع باتجاه فرض رؤيته على المؤتمرين، وجعل محاربة الإرهاب العنوان الرئيس للصراع في سورية، وعنوان التوافق على حله كذلك.
ولم يكن للمقترح الروسي أن يمر من دون تعديله، وأخذ مواقف الدول الداعمة للمعارضة في الاعتبار، والنص على تضمين المسار السياسي لحل الأزمة السورية، بوصفه الضلع الآخر الضروري لنجاح أي جهد لمواجهة الإرهاب. فالإرهاب، وفق هذه المقاربة، هو نتيجة، وليس سبباً للصراع الدائر في سورية، فلولا بطش النظام واستخدامه أقصى درجات العنف، بما في ذلك اللجوء للسلاح الكيماوي، لقمع الثورة السلمية واستعانته بمليشيات طائفية، ترعاها إيران، لما انتشر الإرهاب وتنامت قدراته على التجنيد والتمويل، حتى وصل إلى القدرة على الضرب في أماكن بعيدة. وبناء عليه، وبالتوازي مع الاتفاق على تصنيف التنظيمات الإرهابية ومحاربتها، جرى التوافق على ضرورة إطلاق عملية سياسية، وفق جدول زمني تم تحديده بثلاث فترات متلاحقة، تنتهي في ديسمبر/كانون أول 2017. وتنطلق العملية التفاوضية برعاية الأمم المتحدة في الفترة الأولى التي تبدأ مطلع عام 2016، وتهدف إلى الاتفاق على آليات وقف إطلاق النار، بينما تشهد الفترتان اللاحقتان الإعلان عن تأسيس حكمٍ "ذي صدقية وشاملٍ وغير طائفي وإصلاحات دستورية"، ومجموعة من الاستحقاقات التمثيلية، كالانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تحت إشراف الأمم المتحدة؛ بحيث تشمل السوريين كافة في الداخل والخارج، سواء في مخيمات اللجوء أو بلاد المهجر.
"فيينا": فرصة للحل أم مسار تسوية بعيدة؟
بعد مرور نحو خمسة أعوام على بدء الثورة السورية، ومع غياب عملية سياسية ذات صدقية تفضي إلى حل، حرصت الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في الأزمة السورية على عدم السماح بالإخلال بالتوازن في المعادلات العسكرية على الأرض، فلم يكن أي طرفٍ يسمح بهزيمة حلفائه، أو انتصار خصومه. وقد تجلت هذه النزعة بوضوح بعد التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام؛ إذ زادت القوى الداعمة للمعارضة من مستوى دعمها، ما أفضى إلى إفشال الخطط الروسية الرامية إلى إحداث تغيير جوهري في موازين القوى على الأرض. أدى فشل التدخل الروسي في ذلك، والخشية من الانجرار إلى حرب استنزاف في سورية، فضلاً عن تنامي تهديدات تنظيم الدولة، وتفاقم أزمة اللجوء السوري، وتحول سورية إلى عبء أمني واقتصادي وأخلاقي، إلى التحوّل نحو مسار فيينا لبث "الروح" في العملية السياسية المتعثرة منذ مؤتمرات جنيف. ودعت عوامل أخرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى العمل بصورة استباقية، لفرض شروطه للحل في سورية، ومنها ظهور بوادر تغيّر في المشهدين الإقليمي والدولي، بعد حل أزمة الملف النووي الإيراني، وعودة طهران التدريجية للحظيرة الدولية، فاتحة الباب أمام إعادة تشكيل النظام الإقليمي، وترتيب أدوار الفاعلين فيه، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. وقد عجل في ذلك ظهور بوادر التفكك والتصدع في بنية النظام، ومؤشرات على قرب انهيار الجيش السوري، بالتوازي مع فشل إيران وحلفائها في تغيير خرائط السيطرة على الأرض.
لقد وظفت الدبلوماسية الروسية بنجاح عدم فاعلية التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم الدولة، مبرراً للتدخل في سورية. كما تحاول أن توظفه باتجاه فرض حل سياسي، بعد أن تحولت إلى طرف رئيسٍ، لا غنى عنه في تحديد مستقبل سورية؛ ما جعل موسكو محطة إجبارية للتحركات السياسية والدبلوماسية الباحثة عن حل للأزمة السورية التي أخذت نتائجها تنعكس، بشكل مباشر، على الأمن الإقليمي والدولي. وقد أدى ذلك إلى التوصل إلى نقاط مشتركة، كانت الأساس العملي لبدء عملية سياسيةٍ، أسفرت عن فتح مسار فيينا.
وفضلًا عن ذلك، أدى فشل مساعي مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان ديمستورا، إلى تخليه عن طروحاته السياسية غير المقبولة، لمعالجة الأزمة السورية، مثل سياسات التجميد الجزئي للعمليات العسكرية، ومحاولة تجاوز واقع الصراع وأسبابه، من خلال العمل على توحيد جهد النظام وفصائل المعارضة في مواجهة الجماعات المتطرفة، ودفعه نحو التحول إلى مقاربة أوسع، تقوم على البحث عن مدخل لوقف إطلاق النار، في إطار عملية سياسية شاملة، تفضي إلى مرحلة انتقالية، تستند إلى توافق إقليمي ودولي، علاوة على إشراك القوى الإقليمية المؤثرة في المشهد السوري. وكانت الغايات المشتركة بين موسكو وواشنطن، والمتمثلة في مواجهة تنظيم الدولة، عاملًا دافعاً لتضافر الجهد، وتهيئة المناخ العام للقاء موسع يجمع الأطراف المؤثرة كافة، وإطلاق عملية سياسية بالحدود الدنيا، لكنّ هذه المساعي التي حاولت التركيز على المشترك، وتأجيل البحث في أهم القضايا الخلافية، ظلت تشكل عوامل تفجير محتملة لكل أركان العملية السياسية، وفي مقدمتها مستقبل بشار الأسد، وموضوعات مشاركته في أي انتخابات محتملة مقبلة، وموقعه في المرحلة الانتقالية، وصلاحياته وعلاقته بالجيش وأجهزة الأمن، وغيرها من القضايا التفصيلية الحساسة، كما أنّ تصنيف الجماعات الإرهابية سوف يشكل نقطة خلاف كبرى أخرى، وسط محاولات روسيا وإيران أن تشمل القائمة معظم فصائل المعارضة، في ظل صمت أميركي مريب.
موقف المعارضة السورية وخياراتها
بعد أن تمكنت من استيعاب صدمة التدخل العسكري الروسي، والتعايش مع الضربات التي يوجهها سلاح الجو الروسي، تقف المعارضة السورية المسلحة، اليوم، أمام تحدي مواجهة التوافق الروسي - الأميركي على تجاوز "عقدة الأسد"، والدفع باتجاه حلٍّ لا تبدو معالمه واضحة، وذلك في ظل محاولات مستمرة، تقودها روسيا لتغيير موازين القوى على الأرض، بالاستفادة من حالة الاستنفار العالمية في مواجهة قضايا الإرهاب، ولا سيما بعد أن أدت عمليات تنظيم الدولة إلى توحيد العالم ضده. وتجد المعارضة السورية المسلحة نفسها في مواجهة شرسة لصد كل محاولات التقدم على الأرض التي تقودها مليشيات إيرانية ولبنانية وعراقية، مدعومة بغطاء جوي روسي، من جهة، وقوات تنظيم الدولة، من جهة ثانية، فضلًا عن قوات النظام السوري وبراميله المتفجرة من جهة ثالثة. ولكنّ معركتها السياسية القادمة تبدو أكثر شراسة؛ إذ جرى استبعاد المعارضة (والنظام أيضاً) عن مشهد فيينا، وانحصر دورها في التفاوض على آليات تنفيذ الحل، وليس على أسسه أو منطلقاته. ويضع هذا المشهد فصائل المعارضة الإسلامية كافة أمام شبح التصنيف منظمات إرهابية، في حال رفضها هذا المسار المتفق عليه أميركياً وروسياً.
ويزداد المشهد تعقيدًا بدعوة قوى متنافرة من المعارضة السورية إلى مؤتمر الرياض، المزمع عقده مطلع ديسمبر/كانون أول 2015؛ إذ قد تتحول المفاوضات إلى التفاوض بين هذه القوى. إنّ تحضير وفد موحّد للمعارضة مهمة صعبة، لكنها تبدو سهلة، مقارنة مع مفاوضاتٍ، لا يوجد أساس واضح، أو حدود معروفة لها، ومع نظام ازداد تعنتًا، منذ التدخل الروسي، ويناور بين روسيا وإيران، ولا يبدو أنه مقبل على تقديم تنازلات. ولهذا، لا يجوز أن ينصب الجهد في الرياض على تشكيل وفد، بل على تشكيل بنية قوية للمعارضة، تتضمن مجلساً تمثيلياً (شبه برلمان) يضم مختلف القوى المعارضة، وجيش تحرير تشارك فيه الفصائل كافة، ولجنة تنفيذية منتخبة، تعيّن وفدًا تفاوضيًا باسمها. وبذلك يكون الوفد التفاوضي منبثقاً من بنية سياسية موحدة، ملتزمة مواثيق المعارضة الموقعة، ومنها وثيقة القاهرة. وإذا لم يجرِ ذلك، سوف يتحول الوفد المفاوض المزمع تشكيله إلى وفدٍ غير متجانسٍ، يضم آراء ومواقف متعارضة.
ثمّة مكان لبرلمان سوري بديل، يجمع القوى كلها. ولكن، لا بد من قيادة سياسية موحدة، وملتزمة ببرنامج سياسي، كي تشرف على الوفد المفاوض، تكون مهمتها الرئيسة قيادة الشعب السوري وقواه المسلحة، وتمثيله. إنّ وفدًا يضم مواقف متناقضة لا يمكنه أن يفاوض نظاماً دكتاتورياً، في حين لا يمكن للمعارضة السورية أن تستمر، وتواصل العمل، بحالتها التنظيمية الراهنة، في ظل احتمال فشل المفاوضات.
بناء عليه، تجد المعارضة السورية نفسها اليوم أمام امتحانٍ كبير، فإما الدفع باتجاه توحيد الجهد والتنسيق الكامل، قبل الدخول في عملية سياسية، بوصفها صفاً متماسكاً، ومن ثمّ تحدث تغييراً كاملاً في الخطاب والسلوك، وتنهي التنافس والقطيعة بين العسكري والسياسي، وكل ما من شأنه إثبات مقولة النظام عن عدم وجود شريك في العملية السياسية، أو أنه سيجري تصنيف من يعترض في قائمة الإرهاب التي تحولت إلى سيف مسلط على رقاب الجميع. تأسيساً على ذلك، سوف يشكل مؤتمر الرياض فرصة لقوى المعارضة السورية، لتنظيم الصفوف، بدلاً من ترك الباب مفتوحاً أمام القوى الدولية، لاختيار وفد المعارضة الذي يفاوض النظام وفرضه، وخصوصاً مع تسريب قوائم مختلفة للقوى الدولية حول الأسماء التي ترغب في وجودها في وفد المعارضة، وبشكل مهين للشعب السوري، ونضاله وتضحياته. كما يمكن أن يشكل هذا المؤتمر مدخلاً لتحسين شروط المعارضة، خصوصاً أنّ تفاهمات فيينا ما زالت غير حاسمة وغير نهائية، وما زال هناك هامش لتحسين ظروف المعارضة السياسية والتفاوضية، وحتى العسكرية. كما يمكن الاستفادة من أن هذا المؤتمر جاء بتوافق دولي، فشلت طهران في منعه، ومن كونه يكرس مركزية دور القوى الداعمة للثورة في تسوية الأزمة، بعيدًا عن فرض الشروط من جانب واحد، وأنه وصل إلى نتيجة باستحالة التوصل إلى حلٍّ، لا يراعي مصالح قوى المعارضة السورية والدول الداعمة لها.
خاتمة
تمثل بيانات فيينا، وخصوصاً البيان الأخير، مرحلةً جديدة في الأزمة السورية، قد تفضي إلى بدء عملية سياسية. ولكنّ قدرة القوى الإقليمية والدولية المؤثرة على تعطيل المسار قائمة؛ إذ لا يزال الخلاف محتدماً حول مصير الأسد، ودوره في المرحلة الانتقالية، وحول التعامل مع ملف الجماعات الإرهابية، فضلاً عن الخلاف بشأن تحديد مآل هذه العملية، المرتبطة بآليات وقف إطلاق النار ومراقبته. وتعدّ المسألة الأخيرة معقدةً للغاية، نظراً لوجود فصائل كثيرة على الأرض، ولصعوبة تحديد خطوط التماس في بعض المناطق؛ ما يجعل تحديد الجهة التي تخرق وقف إطلاق النار مستحيلاً ولكن، بما أنّ مسار فيينا هو الوحيد القائم في ميدان التحركات السياسية لحل المسألة السورية اليوم، فيتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تكثيفًا للحركة الدبلوماسية، بحثًا عن فرص تعزيز بيان فيينا ودعمه. وفي الحالات كافة، وبغض النظر عن آفاق نجاح مسار فيينا، فإنّ المعارضة السورية، يجب أن تقيم مؤسساتها العسكرية والسياسية الموحدة وبرلمانها وهيئتها التنفيذية.
No comments:
Post a Comment