د. عادل سمارة
رام الله المحتلة
"طبيعي أن تعرف الشعوب والأمم النصر والهزيمة والنهوض والكبوات. ولكن أن لا تعرف أنظمة بما لها من تحالفات وأجهزة سوى الهزيمة، وأن لا تعيش تلك الأنظمة إلا على الهزيمة، وأن تستدخل الهزيمة وحسب، فهذا أمر خارج على المألوف الإنساني.
لو كان في ايام العرب الحديثة ما يستحق التخليد فهو14 آب، يوم التسجيل الرسمي لانتصار العرب على يد المقاومة الإسلامية في لبنان. لا حرج في تسمية الإنتصار عربياً، وقد بدا ذلك واضحاً في خطاب حزب الله بعد تهمٍ شتى بأنه حزب طائفي ديني قطري...الخ، ولا حرج في تسمية المقاومة إسلامية لأنها إسلامية من طراز رفيع هكذا.
لم يتورع أكثر من حاكم عربي عن تهنئة القادة الصهاينة بالانتصار منذ اليوم الأول للحرب، وكان ذلك عبر "نشد على اياديكم- والمعذرة لتوفيق زياد". ولا يبدو أن هؤلاء الحكام، فما بالك بأحزاب ومثقفين غيرهم، قد فعلوا ذلك في خروج على مألوفهم، لأن ما تم الإعتياد عليه هو الهزيمة عالية السرعة وبالغة الإتساع.
وإذا كان هذا التعجُّل من حكام عرب امراً مستغرباً، فالأغرب منه ما قام به فريق 14 آذار الذي كان يهنىء الغاصب باحتلال بلده!
قال شوقي:
حابي سمعت كما سمعت وراعني أن الرمِيَّةَ تحتفي بالرامي
هتفوا لمن شرب الطلا في بيتهم واباح عرشهم فراض غرامِ
وكي لا يخوننا التذكر والمقارنة، فهناك شواهد كهذه في التاريخ ولا سيما في المدرسة الفرنسية التي طالما تتلمذ عليها "فرانكفونيون عرب" حينما فتحت البرجوازية الفرنسية ابواب باريس لبسمارك لتسجل على نفسها خيانة سجلها التاريخ. وهذا يبرز الفارق بين حكومة تاليران الفرنسية 1870 وبين المقاومة الفرنسية للغزو النازي خلال الحرب الإمبريالية الثانية.
لا يخفى أن كل عربي بارك العدوان، وهنّأ به قبل نتائجه هو في الحقيقة صاحب مصلحة في الهزيمة. وعليه، فإن استدخال الهزيمة هو جوهرياً نتاج تركيب بنيوي معقد يعود إلى تاريخ طويل من التخارج البرجوازي الطائفي العربي لصالح الأجنبي ومن ضمنه هدم الشعور بالمواطنة. فعلاقة هؤلاء بالوطن هي علاقة عابرة، علاقة استحلاب، وتجهيز النفس للهرب في أسطول من الطائرات حين ينتصر الشعب، وهناك شواهد عالمية ايضاً على هذا، بعد انتصار الثورة الصينية والكوبية والفتينامية...الخ. علاقة هؤلاء بالبلد هي علاقة الحصول على امتياز لا علاقة جني نتائج مشروع تنموي إنتاجي كما هي حال البرجوازيات في البلدان المتقدمة، لأنها لم تبنِ هذا المشروع بل عاشت على حساب قتله، على "ريْعِ قتله". فهي قد حصلت على ما حصلت عليه كمنحة من المستعمِر مما أبقاها في نطاق الجاهزية لخدمة مخطط المستعمر في بلدها.
قد يكون هذا وحده التفسير المعقول لمدرسة سايكس ـ بيكو التي خلقت القطريات العربية وصممتها وواصلت تصميمها بحيث تكون برجوازيتها طفيلية عاجزة عن التحول إلى برجوازية قومية ذات توجه إنتاجي، لا بل رافضة لخلق ما يوجب الدفاع عنه، سواء على مستوى المصنع أو على مستوى تحقيق المواطنة وتأصيلها في ذهنيتها من جهة وفي ذهنية الطبقات الشعبية المقموعة والمُخانة من جهة ثانية.
لذا، طبيعي أن تجد هذه البرجوازيات وتدرك بأن مصير دولتها القطرية (سواء كانت صغيرة المساحة أم شاسعة، قليلة عدد السكان أم متخمة بسكان المقابر، نفطية أم "صحراء بلا نفط" مرتبط بحبل سُرٍّي بمصير الكيان الصهيوني. ألم يتم قرار تجزئة الوطن العربي وإقامة الكيان الصهيوني في نفس الفترة ومن نفس المصدر؟ وهذا ما يؤكد "وحدة" المصير القائمة بالطبع على وحدة الخلق والمصلحة.
لا يتفق انتصار المقاومة بالطبع مع الطبعة الجديدة لسايكس ـ بيكو، مع مشروع الشرق الأوسط الجديد. المشروع الكولونيالي والمابعد كولونيالي بمعنى استعادة واستدعاء الكولونيالية ورفعها إلى درجة أشد خطورة. أي نقل سياسة، ومن ثم حالة، "فرق – تسد" إلى حقبة "التفكيك والتذرير" في الوطن العربي خاصة. وهو الشعار المنسجم مع مخطط المركز الراسمالي في تفكيك المحيط وتركيز وتوسيع المركز، اي مقتضيات العولمة.
من هنا، لم يقتصر موقف مَن باركوا العدوان وهنأوه بالفوز سلفاً معتمدين على الفارق "برأيهم" بين وزن الريشة ووزن "ميركفا"، لم يقتصر على المباركة، بل الإحتفال بالهزيمة لأن مجرد وجودهم مناقض لمختلف مستويات الإستقلال والوحدة والتنمية على الصعيد القومي. ولذا، فإن المباركين كانوا من عدة أقطار عربية وليسوا من لبنان وحده.
أما وقد وقعت الحرب منهم، ووقعت الهزيمة فيهم، فقد تطلب ذلك موقفاً أو وقفة تكتيكية لحفظ ماء الوجه، وهو ما لم يحصل. فكان أن ألقى البعد الرسمي العربي "بمعظمه" بملاية سوداء على النصر لتحويل المشهد كما لو كان مأتماً على ضحايا الحرب. صحيح أن شهيداً واحداً يستحق كل الحزن والإحترام، مقاتلاً كان أم سيدة منزل أم طفلاً قتلته القنابل الأميركية وهو يناغي نهد أمه. ولكن حرية الأمم تأتي غارقة في الدم. فما بالك بمئات آلاف القتلى في الوطن العربي جراء القمع وبنتائج اقل بما لا يقاس بانتصار لبنان الأخير؟ ألا يُقتل في فلسطين أكثر من الألف اللبنانيين في أقل من عام؟ ماذا عن مشروع قتل خمسة وعشرين مليون عراقي؟ فهل تتوقف المقاومة في القطرين لأن هناك ضحايا؟ سيقول أعداء النصر، الذين يرفضون رؤية العد التنازلي للمشروع العدواني في المنطقة/ نعم! لقد أبقت سخونة التحدي في لبنان نفسه موقف هؤلاء على حاله، وما زالوا يرددون عبارات النعي والتباكي على الضحايا وعلى الأطلال، لأن إنسانية البشر وكرامة الأوطان تترجم عندهم في التحليل الأخير بالكمِّ النقدي كما لو أن الأمر مراقبة مؤشرات البورصة.
ومرة أخرى، لقد أمضى عرب الهزيمة عاماًً كاملاً وهم يمسحون دموع أولمرت وليفني، ويقسمون لهم أنهم مرة ثانية سيقفون معهم في الصف الأول. ولا أحسب أن أحداً سيسمي هذا الحديث مجازاً أو مبالغة.
فما ينتظر المنطقة اليوم هجمة المشروع الشرق اوسطي الجريح، ولكنه في الوقت نفسه وحشاً. صحيح ان هزيمة العام الماضي ضربته على الخاصرة، والمقاومة العراقية ضربته على الرأس، ولكنه مشروع حرب شاملة تبدأ بالإصطفاف السياسي والإعلامي وحكم "السفراء والقناصل" وخلق مناخ حروب بينية عربيا وإسلامياً، حروب طوائف وحروبً "قومية" متراكبة على بُنى طائفية لتنتهي بالهجوم العسكري وصولاً إلى تحقيق التراكم، بما هو هدف الأهداف. وتكون النتيجة في حال انتصر المشروع حصة الأسد للمركز، واقتصاد التساقط لحكام وبرجوازيات القطريات.
أمام، ومن أجل معركة "مجدو" وتحقيق التراكم، لا بد من تفكيك لا تتبعه إعادة تركيب من أجل الإنتقال إلى الأمام. فالقادم مشروع تفكيك من أجل العدم.
لذا، لا يمكن مواجهة الخطاب المهزوم والمشروع الشرق أوسطي المعولم، إلا بمشروع المقاومة والممانعة، مشروع حرب الشعب، مشروع تعميم وتعريب حالة المقاومة والانتصار، حالة حرب الشعب في كل الوطن العربي. هذه هي المعادلة الصعبة ولكنها الضرورية. كيف، ومن الذي يُبقي المقاومة مستمرة، ويأنف عن الإلتفات إلى الوراء؟ "
No comments:
Post a Comment