'لعنة غزة' ستطارد الكثيرين
عبد الباري عطوان
".....
كان من المفترض ان يتنبه الزعماء العرب الذين تداعوا لهذه القمة، الى هذه اللحظة التاريخية، وان يظهروا بمظهر القوي، الحريص على قضاياه، وتعزيز رغبته في اثبات وجوده على الساحة الدولية، ولعب دور فاعل في تكريس استقرارها، والانتصار لقضاياه المصيرية، ولكن هذا لم يحدث مطلقا، فقد ظهر هؤلاء الزعماء امام مواطنيهم الغاضبين من عجزهم، وتبلّد مشاعرهم، وافتقادهم زمام المبادرة، مفلسين كليا، على الصعد كافة، السياسية منها على وجه الخصوص. ونحن هنا لا نتحدث عن الافلاس العسكري، لانه مسألة ميؤوس منها، ويتساوى في ذلك محورا الاعتدال والممانعة.
ملحمة الصمود في غزة لم تستحق من هؤلاء الزعماء غير كلمات عابرة، تفتقر الى الحرارة، وتركز على المال تحت عنوان 'اعادة الاعمار'، ولم ترد كلمة المقاومة اطلاقا في البيان الختامي، ولو بشكل عابر، بينما تم التأكيد على شرعية سلطة بلا شرعية دستورية او اخلاقية، بعد سقوطها المريع طوال فترة المجازر، وتبرئتها للجلاد، ولومها للضحية، كأن المقاومة اصبحت عارا، خاصة اذا مارسها من هم تحت الاحتلال.
.....
السيد عمرو موسى بشرنا قبيل انعقاد قمة الكويت، بأنه سيعرض على الزعماء في القمة مجموعة من الخيارات البديلة لمبادرة السلام العربية، ولكن في الجلسات المغلقة، وبعد اختتام القمة قال إنه سيتولى شخصيا البحث عن هذه الخيارات والبدائل. اي تهريج هذا، فأصغر طفل عربي يعرف ان بديل فشل المساعي السلمية هو وضع استراتيجية لاستخدام كل اسلحة المواجهة المتاحة من سياسية واقتصادية وعسكرية. وهناك الكثير منها في حوزة النظام العربي، ولا يتطلب الامر اجراء بحث عنها
.....
شعرت بالخجل الشديد وانا ارى بان كي مون امين عام الامم المتحدة يقف على انقاض مقر المنظمة الدولية المهدم، ويدين هذا العدوان بأقوى الكلمات، ويتعهد بعقاب ومطاردة كل الذين اقدموا على ارتكاب جرائم قتل الاطفال وتدمير منازلهم فوق رؤوس اهلهم. فقد كنت اتمنى لو ان السيد احمد ابو الغيط، او الرئيس مبارك نفسه، او ايا من قادة محور الاعتدال، وبالذات من حلفاء واشنطن الحميمين فعل ذلك.
امين عام الامم المتحدة الكوري البوذي كان اكثر تعاطفا مع معاناة اهالي قطاع غزة من معظم المشاركين في قمة الكويت، بل ومن 'الرئيس' الفلسطيني محمود عباس نفسه، فلم يوجه كلمة لوم واحدة الى المقاومة، واتهم اسرائيل بارتكاب جرائم حرب والاستخدام المفرط للقوة، ووعد بعدم التخلي عن المشردين وذوي الضحايا، وتقديم تقارير وافية عن كل ما شاهده من مآس الى اعضاء المنظمة الدولية ومؤسساتها.
أسعدني اكثر مشاهدة جون جانغ ممثل الاونروا في القطاع الذي كان الناطق باسم الضحايا ومأساتهم في القطاع، يتحرك وسط انقاض القصف طوال الاسابيع الثلاثة من عمر العدوان، معرضا حياته للخطر، وفاضحا مرتكبي المجازر على شاشات الفضائيات، ومتحدثا الى الغرب المنافق المتواطئ بلغته، وبطريقة مؤثرة. ان هذا الرجل يستحق كل التكريم ليس من النظام العربي الفاسد، وانما من منظمات حقوق الانسان، بل يستحق جائزة نوبل نفسها.
المعركة الدائرة حاليا ليست حول كيفية حماية قطاع غزة من عدوان متوقع، وانما كيفية ارسال الاموال المرصودة لاعادة الاعمار.
اموال اعادة الاعمار يجب ان تذهب للحكومة المنتخبة والشرعية، الحكومة التي قاومت وصمدت وقدمت الشهداء والضحايا، لتكون تحت اشرافها، واذا تعذر ذلك فلتوضع تحت تصرف منظمات دولية مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الاونروا، ففيها من الرجال والنساء من امثال جون جانغ، والسيدة كارين ابو زيد من هم محل ثقة وتقدير، بعد ان اثبتوا ذلك عمليا في اللحظات الخطرة.
الصمود البطولي لأهل قطاع غزة احدث حالة 'فرز' تاريخية في المنطقة العربية، فرز بين الانظمة والشعوب الحية، فرز بين من يقفون في خندق المقاومة ومن يقفون في خندق استجداء السلام والاستسلام، فرز بين الاعلام الشريف القابض على جمر الكرامة، واعلام التزوير والتعتيم وتوفير المنابر للمتواطئين مع العدوان ومجازره.
'لعنة غزة' ستظل تطارد الكثيرين، خاصة اصحاب الفخامة والجلالة والسمو الذين رفضوا حتى تجميد مبادرة سلام ماتت وتعفنت على مدى سبع سنوات من الاستجداء، دون ان يلتفت اليها احد."
No comments:
Post a Comment