كفانا مصالحات شكلية
عبد الباري عطوان
".....
العودة إلى جذور الخلافات أمر جميل ومحمود، ولكن ما يمكن الخوف منه هو معايير هذه العودة والمناهج المتبعة في هذا الصدد. فلا بد من التسليم ببعض البديهيات أولاً، والقول بأن هذه الخلافات نشأت بسبب قرار بعض العرب، خوفاً أو قناعةً، بالوقوف في خندق ادارة أمريكية تعاملت مع شعوب المنطقة وقادتها كأنهم قطيع من الغنم تسوقهم بالعصا لخدمة مصالحها وحروبها. ولهذا أيد هؤلاء احتلالها للعراق، وتواطأوا مع حربي حليفتها اسرائيل في جنوب لبنان أولاً وغزة أخيراً، وتقدموا بمبادرة سلام وفق المواصفات الاسرائيلية وبإملاءات أمريكية، وذهبوا إلى مؤتمر أنابوليس بعد اسقاط جميع شروطهم، وتبنوا سلطة فلسطينية ومفاوضاتها العقيمة على حساب تهشيم مقاومة ديمقراطية مشروعة.
....
أطراف أي مصالحة عربية يجب ان تضع كل هذه الحقائق في حسابها، قبل الجلوس الى مائدة المصارحة، سواء في قمة ثلاثية أو رباعية. فما كان يصلح قبل ثلاثين عاماً أيام الحرب الباردة لم يعد يصلح اليوم. فالرأي العام العربي تغير، وأدوات الاتصال تغيرت أيضاً، وباتت عملية الوصول إلى المعلومات أسهل بكثير وبمجرد ضغطة زر.
عودة المثلث المصري - السوري - السعودي الذي حكم المنطقة ثلاثين عاماً، وشكّل محور ارتكاز للمشاريع الأمريكية، غير ممكنة بالصورة القديمة على الأقل. لان سورية تغيرت، والمنطقة تغيرت أيضاً. وقد حمدنا الله كثيراً على ان سورية خرجت من هذا المثلث وارتهاناته، لان هذا الخروج أعاد المنطقة إلى مسارها الصحيح، أي وجود تيارات واجتهادات مختلفة، حكومة ومعارضة، اعتدال وممانعة، والخلاف بين العرب رحمة على أية حال.
التضامن العربي بصيغته السعودية القديمة، أي تسكين المشاكل، واللجوء إلى 'خيار الصفر' أي عدم الحركة لتجنب الخطأ، انتهى، ويجب ان لا يعود أيضاً إلاّ في حالة واحدة، أي التضامن على أرضية مساندة المقاومة، والتصدي لمشاريع الهيمنة الغربية، والتأسيس لمشروع نهضوي عربي، في مواجهة اسرائيل وبالتوازي مع مشاريع تركية - وايرانية.
المصالحة حتى تتم يجب ان تتحقق لها عدة شروط، أولها تواضع دول محور الاعتدال، والاعتراف بفشل سياساتها السابقة، وحدوث تغييرات جذرية في المنطقة والعالم تحتم سحب مبادرتها السلمية المهينة والمهانة، والاستعداد لتبني بدائل أكثر فاعلية، والتخلي عن القول بانعدام هذه البدائل.
في المقابل يجب ان تدرك أطراف محور الممانعة انها بحاجة إلى الآخرين باعتبارهم عمقاً استراتيجياً، وعدم اسقاط العوامل القومية والمذهبية من حساباتها الاقليمية، وتجنب آفة الغرور المتسربة إلى صفوفها بعد انتصارات غزة وجنوب لبنان، والانفتاح الأمريكي الأوروبي الأخير عليها.
الجهود العربية الحالية يجب ان لا يكون انجاح قمة الدوحة المقبلة هو سقفها الأعلى، وانما التأسيس لوفاق عربي استراتيجي حقيقي يمتد إلى ما بعدها. ونعترف اننا لسنا متفائلين كثيراً في هذا الصدد. فنحن أمام عقليات مختلفة، بل وأجيال مختلفة، ولكن أكثر صراحة، ونقول كيف يمكن التفاهم بين رئيس سوري في الاربعين ورئيس مصري في الثمانين، وملك سعودي في الخامسة والثمانين على استراتيجيات للمستقبل، والتخطيط لخمسين أو حتى عشرين عاماً؟
جيادنا هرمة، أنهكها الحكم، ناهيك عن المرض أو الشيخوخة، أو الاثنين معاً، ولهذا تبدو الصورة أمامنا قاتمة، والتغيير صعب، ان لم يكن مستحيلاً، حتى لو حَسُنت النوايا."
No comments:
Post a Comment