الليل السوري الطويل
الياس خوري
"بعد اكثر من ستة أشهر على اندلاع الثورة السورية، وبعد سيل التضحيات التي قدمها ابناء الشعب السوري وبناته، لا بد من ان نطرح السؤال المؤجل على القوى السياسية السورية المعارضة.
وسؤالي ينطلق من حقيقة يعرفها الجميع، وهي ان الثورة السورية كغيرها من ثورات الشعوب العربية لم تكن نتيجة عمل تراكمي قامت به احزاب المعارضة. فهذه الأحزاب ومعها الشخصيات الثقافية المستقلة فوجئت بالثورة مثلما فوجئ بها نظام الاستبداد. الثورة جاءت من وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادرا على تحمّل او فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ اربعة عقود. لا يمت هذا المكان بصلة الى نوع النقاشات السياسية التي احترفتها الأنظمة ونجحت في جر المعارضات اليها، وهي نقاشات تتناسى استباحة كرامة الانسان، وتدعي انه لا بد من استمرار الاستبداد كي لا تنهار 'الممانعة'، او كي لا تقفز التيارات الأصولية التكفيرية الى السلطة، او تفاديا لحرب أهلية طائفية.
شباب الثورات العربية ذهبوا الى الأسئلة الأولى، وجعلوا من بديهيات الحياة شعارات لثورتهم، بدأوا بالحرية والكرامة، واعلنوا ان الاستبداد الذي خنق المجتمعات وحطمها، يجب ان يتهاوى، كشرط اولي من اجل ان يبدأ النقاش حول المستقبل.
لكن الثورات العربية لم تأتِ من الفراغ، فتضحيات اجيال من المثقفين والمعارضين، وشجاعة الذين قاوموا البغي والطغيان وهم يواجهون القتل والسجون والمنافي شكلت الخلفية التي بنى عليها جيل جديد من المناضلين افق الحرية الذي تعمد بالدم.
يشير هذا الواقع الى حقيقة لا بد من الاعتراف بها، هي وجود فراغ سياسي كبير لا تستطيع المؤتمرات التي تعقد في الخارج او الداخل، والمجالس التي تشكل على عجل تعبئته. فواقع الحركة السياسية يشير الى ان احزاب المعارضة وقواها، في الخارج والداخل، لا تستطيع ان تتصدى لقيادة تحرك شعبي هو عبارة عن انفجار اجتماعي لا سابق له.
فهذه الاحزاب والقوى، نتيجة القمع الوحشي الذي تعرضت له خلال عقود، ليست مؤهلة لقيادة هذا النوع من التحرك، كما انها لا تمتلك الادوات الفكرية او التنظيمية لقيادة ثورة شعبية تتعرض لأبشع وسائل القمع واكثرها همجية.
من جهة اخرى افرزت الثورة السورية شكلها التنظيمي الخاص بها، الذي اطلق عليه المناضلون والمناضلات اسم التنسيقيات. وعلى الرغم من ان هذا الشكل التنظيمي يبدو غير واضح الملامح، بالنسبة للمراقبين والمتابعين والمتعاطفين عن بعد، غير ان هذا الشكل التنظيمي الجماهيري، اثبت قدرته على قيادة التحرك وتنظيم المظاهرات في اصعب الظروف التي يمكن لأي ثورة شعبية ان تمر بها.
ما تشهده سورية ليس قمعا، بل هو مسلسل كابوسي لا سابق له، حيث يجتمع القتل بالتعذيب بالعقوبات الجماعية، وتجري تغطية الجريمة عبر استخدام مركّب تضليلي قرر ان المتظاهرين والمحتجين هم عصابات مسلحة!
في هذا المناخ الرهيب، لا بد ان يثير الصمود الشعبي والاصرار على مواجهة آلة الموت بصرخة الحرية اعجاب الجميع. فلقد اثبت الشعب السوري في ثورته انه الأكثر شجاعة، وانه يستحق دوره الطليعي في العالم العربي بجدارة.
غير ان البطولات يجب ان لا تحجب واقعا بدأت يشكل عبئا على الثورة. وانا لا اقصد هنا الناشطين السوريين الذين يتحركون في العالم من اجل دعم الثورة، فهذا حقهم وواجبهم، لكنني اسمح لنفسي بالتنبيه الى ان هناك فرقا يجب ان يكون واضحا بين دعم الثورة وقيادتها. قيادة الثورة لا يمكن ان تسقط بالمظلات، القيادة هي فعل تراكمي، يصنعه الشعب من خلال الاشكال التنظيمية التي استنبطها، ولا يحق لأحد باسم دعم الثورة فرض قيادة عليها من خارجها.
وكي اكون واضحا فان ما يجري على المستوى التنظيمي في الخارج ليس ناضجا، وهو بالتالي عاجز عن انتاج تشكيلة تقود الثورة وتمثلها، وان المطلوب هو العودة الى قاعدة الثورة، والعمل معها من اجل انتاج مرجعية سياسية واخلاقية.
الخطوة الأولى يجب ان تكون انتاج هذه المرجعية، كي تكون اطارا لتفاعل التنسيقيات، وخطوة تمهيدية لاعلان تشكيلة سياسية تكون مهمتها قيادة سورية من الاستبداد الى الديمقراطية.
الأصدقاء في داخل سورية وخارجها، يعرفون ان مرجعية هذه الثورة موجودة في سورية، وان المطلوب هو تجاوز الخلافات القديمة، من اجل بلورة برنامج واضح المعالم، يبدأ من نقطة الاجماع الوطني حول اسقاط النظام الاستبدادي، ويبلور ملامح المرحلة الانتقالية الى الديمقراطية.
المرحلة جديدة بشكل كامل، وعدم قدرة رموز المعارضة السورية على تفهم واقع ان اسئلة الماضي مضت الى غير رجعة، تعني شيئا واحدا، هو ترك الثورة السورية في عتمة المجهول.
ان تشكيل هذه المرجعية بوصفها جزءا عضويا من تنسيقيات الثورة السورية، يسمح ببناء تفاعل صحي مع قيادات الخارج من اجل بناء اطار لمجلس وطني سوري، يلعب دوره في حشد الدعم والتأييد وبناء مصادر استمرار الثورة حتى اسقاط النظام.
شباب الثورة السورية يعرفون ان هذا الليل السوري الطويل لن ينجلي بسرعة، وان امامهم مهمات شاقة وتضحيات كبرى، لكنهم يعرفون ايضا ان لا عودة الى الوراء، وان لا خيار امامهم سوى مواجهة العتمة بالصمود والتحدي والتفاؤل.
الثورة لا تنتظر احداً، لكن على القيادات الديمقراطية السورية ان تعي ان التاريخ لا ينتظر، وان عليها اليوم بلورة مرجعية اخلاقية وسياسية تساهم في بناء افق التغيير.
"
الياس خوري
"بعد اكثر من ستة أشهر على اندلاع الثورة السورية، وبعد سيل التضحيات التي قدمها ابناء الشعب السوري وبناته، لا بد من ان نطرح السؤال المؤجل على القوى السياسية السورية المعارضة.
وسؤالي ينطلق من حقيقة يعرفها الجميع، وهي ان الثورة السورية كغيرها من ثورات الشعوب العربية لم تكن نتيجة عمل تراكمي قامت به احزاب المعارضة. فهذه الأحزاب ومعها الشخصيات الثقافية المستقلة فوجئت بالثورة مثلما فوجئ بها نظام الاستبداد. الثورة جاءت من وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادرا على تحمّل او فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ اربعة عقود. لا يمت هذا المكان بصلة الى نوع النقاشات السياسية التي احترفتها الأنظمة ونجحت في جر المعارضات اليها، وهي نقاشات تتناسى استباحة كرامة الانسان، وتدعي انه لا بد من استمرار الاستبداد كي لا تنهار 'الممانعة'، او كي لا تقفز التيارات الأصولية التكفيرية الى السلطة، او تفاديا لحرب أهلية طائفية.
شباب الثورات العربية ذهبوا الى الأسئلة الأولى، وجعلوا من بديهيات الحياة شعارات لثورتهم، بدأوا بالحرية والكرامة، واعلنوا ان الاستبداد الذي خنق المجتمعات وحطمها، يجب ان يتهاوى، كشرط اولي من اجل ان يبدأ النقاش حول المستقبل.
لكن الثورات العربية لم تأتِ من الفراغ، فتضحيات اجيال من المثقفين والمعارضين، وشجاعة الذين قاوموا البغي والطغيان وهم يواجهون القتل والسجون والمنافي شكلت الخلفية التي بنى عليها جيل جديد من المناضلين افق الحرية الذي تعمد بالدم.
يشير هذا الواقع الى حقيقة لا بد من الاعتراف بها، هي وجود فراغ سياسي كبير لا تستطيع المؤتمرات التي تعقد في الخارج او الداخل، والمجالس التي تشكل على عجل تعبئته. فواقع الحركة السياسية يشير الى ان احزاب المعارضة وقواها، في الخارج والداخل، لا تستطيع ان تتصدى لقيادة تحرك شعبي هو عبارة عن انفجار اجتماعي لا سابق له.
فهذه الاحزاب والقوى، نتيجة القمع الوحشي الذي تعرضت له خلال عقود، ليست مؤهلة لقيادة هذا النوع من التحرك، كما انها لا تمتلك الادوات الفكرية او التنظيمية لقيادة ثورة شعبية تتعرض لأبشع وسائل القمع واكثرها همجية.
من جهة اخرى افرزت الثورة السورية شكلها التنظيمي الخاص بها، الذي اطلق عليه المناضلون والمناضلات اسم التنسيقيات. وعلى الرغم من ان هذا الشكل التنظيمي يبدو غير واضح الملامح، بالنسبة للمراقبين والمتابعين والمتعاطفين عن بعد، غير ان هذا الشكل التنظيمي الجماهيري، اثبت قدرته على قيادة التحرك وتنظيم المظاهرات في اصعب الظروف التي يمكن لأي ثورة شعبية ان تمر بها.
ما تشهده سورية ليس قمعا، بل هو مسلسل كابوسي لا سابق له، حيث يجتمع القتل بالتعذيب بالعقوبات الجماعية، وتجري تغطية الجريمة عبر استخدام مركّب تضليلي قرر ان المتظاهرين والمحتجين هم عصابات مسلحة!
في هذا المناخ الرهيب، لا بد ان يثير الصمود الشعبي والاصرار على مواجهة آلة الموت بصرخة الحرية اعجاب الجميع. فلقد اثبت الشعب السوري في ثورته انه الأكثر شجاعة، وانه يستحق دوره الطليعي في العالم العربي بجدارة.
غير ان البطولات يجب ان لا تحجب واقعا بدأت يشكل عبئا على الثورة. وانا لا اقصد هنا الناشطين السوريين الذين يتحركون في العالم من اجل دعم الثورة، فهذا حقهم وواجبهم، لكنني اسمح لنفسي بالتنبيه الى ان هناك فرقا يجب ان يكون واضحا بين دعم الثورة وقيادتها. قيادة الثورة لا يمكن ان تسقط بالمظلات، القيادة هي فعل تراكمي، يصنعه الشعب من خلال الاشكال التنظيمية التي استنبطها، ولا يحق لأحد باسم دعم الثورة فرض قيادة عليها من خارجها.
وكي اكون واضحا فان ما يجري على المستوى التنظيمي في الخارج ليس ناضجا، وهو بالتالي عاجز عن انتاج تشكيلة تقود الثورة وتمثلها، وان المطلوب هو العودة الى قاعدة الثورة، والعمل معها من اجل انتاج مرجعية سياسية واخلاقية.
الخطوة الأولى يجب ان تكون انتاج هذه المرجعية، كي تكون اطارا لتفاعل التنسيقيات، وخطوة تمهيدية لاعلان تشكيلة سياسية تكون مهمتها قيادة سورية من الاستبداد الى الديمقراطية.
الأصدقاء في داخل سورية وخارجها، يعرفون ان مرجعية هذه الثورة موجودة في سورية، وان المطلوب هو تجاوز الخلافات القديمة، من اجل بلورة برنامج واضح المعالم، يبدأ من نقطة الاجماع الوطني حول اسقاط النظام الاستبدادي، ويبلور ملامح المرحلة الانتقالية الى الديمقراطية.
المرحلة جديدة بشكل كامل، وعدم قدرة رموز المعارضة السورية على تفهم واقع ان اسئلة الماضي مضت الى غير رجعة، تعني شيئا واحدا، هو ترك الثورة السورية في عتمة المجهول.
ان تشكيل هذه المرجعية بوصفها جزءا عضويا من تنسيقيات الثورة السورية، يسمح ببناء تفاعل صحي مع قيادات الخارج من اجل بناء اطار لمجلس وطني سوري، يلعب دوره في حشد الدعم والتأييد وبناء مصادر استمرار الثورة حتى اسقاط النظام.
شباب الثورة السورية يعرفون ان هذا الليل السوري الطويل لن ينجلي بسرعة، وان امامهم مهمات شاقة وتضحيات كبرى، لكنهم يعرفون ايضا ان لا عودة الى الوراء، وان لا خيار امامهم سوى مواجهة العتمة بالصمود والتحدي والتفاؤل.
الثورة لا تنتظر احداً، لكن على القيادات الديمقراطية السورية ان تعي ان التاريخ لا ينتظر، وان عليها اليوم بلورة مرجعية اخلاقية وسياسية تساهم في بناء افق التغيير.
"
No comments:
Post a Comment