معجزة غزة: الخاسرون والرابحون
عبد الباري عطوان
"استطاع بضعة آلاف من الجياع في قطاع غزة ان يقلبوا كل المعادلات السياسية في المنطقة العربية باقتحامهم الحدود مع مصر بالقوة، ان يعيدوا توحيد العالم الاسلامي حول قضية واحدة بعد ان فرقتهم قضايا كثيرة طوال السنوات العشرين الماضية.
ما يمكن استخلاصه، وللوهلة الاولي، مما حدث علي معبر رفح الحدودي المصري ـ الفلسطيني هو ان زمن التفوق العسكري، والذكاء السياسي الاسرائيلي يتراجع بسرعة قياسية، امام ظاهرة انهيار ثقافة الخوف لدي الشارع العربي الاسلامي التي زرعتها الانتصارات الاسرائيلية في حروبها الخاطفة مع الانظمة الرسمية العربية.
اسرائيل ستظل تعاني من عقدة نفسية اسمها الجنوب ، فقد تعرضت لهزيمتين مذلتين في تاريخها في جنوب لبنان، الاولي عندما انسحبت من جانب واحد في عام الفين، والثانية عندما عجزت عن كسر عزيمة المقاومة امام صمود اسطوري لأكثر من اربعة وثلاثين يوما اوقع خسائر كبري في سمعتها اولا، وصفوف قواتها ثانيا.
وها هي تتعرض لهزيمة ثالثة في جنوب فلسطين وفي قطاع غزة، عندما انهار حصارها مثل بيت العنكبوت امام صمود من نوع آخر.
نحن نرفض كل النظريات والتفسيرات التي يحاول البعض اطلاقها بالقول ان اسرائيل وضعت هذا السيناريو للتخلص من قطاع غزة والقذف به في وجه مصر. لان زمن التفوق الاسرائيلي في التفكير والتخطيط قد ولي وربما الي غير رجعة، ليس لان العرب باتوا اكثر ذكاء، وانما لانهم باتوا اقل اكتراثا، واكثر تصميما علي استعادة كرامة المقاومة التي اهدرتها الأنظمة.
النظام المصري بدأ يقرأ الخريطة العربية بشكل افضل، ويتحرك مضطرا لتجنب الالغام التي تهدد استقراره، وخاصة تلك المزروعة علي حدوده مع غزة باملاءات اسرائيلية، فلو لم يتحرك ابناء قطاع غزة لنسف الحدود واقتحامها بعشرات الآلاف، لفعل ذلك المصريون الغاضبون من حال الهوان التي اوصلتهما اليها حكومتهم بخنوعها المهين للضغوط الاسرائيلية والامريكية.
ہپہپہ
الرئيس حسني مبارك كان امام خيارين، فإما ان يستمر في اطاعة الاملاءات الاسرائيلية وتشديد الحصار علي اهل غزة، ويواجه غضبا شعبيا مصريا متفجرا نتيجة لهذا الخنوع، او يغض النظر عن تفجير الحدود واقتحامها، وينفس بذلك احتقانا شعبيا متضخما وبما يجنب نظامه احتمالات الانهيار. ويبدو انه اختار الثاني ايثارا للسلامة.
اسرائيل لا تستطيع اغضاب النظام المصري، وتصدير مخزن التطرف في غزة اليه مجددا، لان هذا يعني مضاعفة مخاوفها الامنية لا تقليصها، وربما زعزعة الالتزام بمعاهدة كامب ديفيد للسلام، وتوسيع رقعة المقاومة بحيث تشمل صحراء سيناء وحدودها الطويلة مع اسرائيل.
النظام المصري بات اقوي في مواجهة اسرائيل بفضل تفجير الحائط الحدودي مع قطاع غزة، فهو يستطيع ان يفرض شروطه لتعديل معاهدة كامب ديفيد وبما يسمح له بزيادة قواته في سيناء، والأهم من ذلك يستطيع ان يقول للامريكيين ان ليس كل ما تقوله وتفعله اسرائيل هو الصحيح، ولا بد من اخذ تحذيرات مصر جراء السياسات الاسرائيلية الغبية تجاه الفلسطينيين والعرب بشكل عام علي محمل الجد. فمصر حذرت من خطورة ابقاء معبر رفح مغلقا، مثلما حذرت من تجويع مليون ونصف المليون فلسطيني بالطريقة التي مارستها اسرائيل، وما يمكن ان يترتب علي ذلك من نتائج كارثية في دعم التطرف وانهيار ما تبقي من النظام الامني في المنطقة المتفجرة.
فك الارتباط الاسرائيلي مع قطاع غزة الذي هدد به نائب وزير الدفاع هو فكرة رومانسية ولكنها غير ممكنة عمليا، ليس لأن مصر لن تقبل بها، بل لأن الفلسطينيين سواء في غزة او رام الله سيرفضونها، فأهل قطاع غزة ومعظمهم من اللاجئين، سيستمرون في المقاومة، واذا كانوا اليوم يطلقون صواريخ بدائية محلية الصنع، فانه من غير المستبعد غدا، وفي حال تخلي مصر عن التزاماتها بمراقبة الحدود وتدمير الانفاق، ان تجد أن اسرائيل نفسها تواجه صواريخ كاتيوشا وربما الحسن والحسين والعباس وشهاب.
والاخطر من هذا وذاك، ان سابقة تدمير الحواجز في قطاع غزة قد تنتقل في المستقبل القريب الي الضفة الغربية، فماذا يمنع عشرات الآلاف من ابناء بيت لحم ونابلس وجنين والخليل وطولكرم من الزحف الي حواجز الذل الاسرائيلية البالغ تعدادها ستمئة حاجز وتدميرها تماما مثلما فعل ابناء قطاع غزة.
حكومة اولمرت هي الخاسر الاكبر، ومعها سمعة اسرائيل داخليا وخارجيا. فشعب غزة كسر غرورها، واظهرها امام العالم كدولة فاشية تتلذذ في تعذيب الضعفاء، وتمارس ابشع انواع التعذيب في حق شعب شردته وحرمته من ابسط حقوقه. العالم كله شاهد اطفال غزة ينزفون حتي الموت بسبب نقص والدواء. مثلما شاهدوا الرضع يلفظون انفاسهم الاخيرة وهم في حاضناتهم بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
الخلل الاساسي وراء كل هذه التطورات المزعجة لواشنطن يكمن في توجيه الضغوط علي الطرف الضعيف وحماية الطرف الأقوي وتشجيع طغيانه.
ہپہپہ
الآنسة كوندوليزا رايس قالت قبل يوم من انفجار الحدود ان المعادلة التي تريد واشنطن تحقيقها هي الامن لاسرائيل وتلبية الاحتياجات الانسانية لاهل قطاع غزة. هذه المعادلة هي اساس كل العلل والتوترات الآنية واللاحقة في المنطقة. فالمعادلة الاصح هي الامن لاسرائيل مقابل الحقوق السياسية والقانونية الكاملة للشعب الفلسطيني. لان هذا الشعب ليس شعبا متسولا يريد ان يعيش حياته علي الاعانات وفضلات الدول المانحة، ولهذا جاء الرد سريعا علي الآنسة رايس وادارتها بمفاجأة اقتحام الحدود بالطريقة التي شاهدناها.
الرئيس محمود عباس سيلتقي ايهود اولمرت يوم الاحد المقبل للمرة العاشرة او الحادية عشرة، وسيكون الوضع في غزة وحدودها علي قمة جدول الاعمال، اي ان الجانبين سينسقان مواقفهما تجاه هذه المعضلة الجديدة، او هكذا مفترض، وهذا يعني ان الرئيس عباس يرفض كل النداءات بقطع المفاوضات تضامنا مع ابناء شعبه المحاصر من صديقه اولمرت في قطاع غزة.
سؤالنا للرئيس عباس، الذي وصف صواريخ غزة التي تضرب سديروت بانها عبثية هو ببساطة: الا توافق معنا بان لقاءاتك المهينة هذه مع اولمرت التي لم تفكك حاجزا واحدا او تزل مستوطنة غير شرعية في الضفة الغربية هي اكثر عبثية ؟"
No comments:
Post a Comment