Monday, January 14, 2008

حفاوة عربية لا يستحقها بوش

حفاوة عربية لا يستحقها بوش

عبد الباري عطوان

"ربما يفاجيء هذا الترحيب الحار الذي حظي به الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش في العواصم العربية التي زارها في جولته الحالية، الغالبية الساحقة من ابناء شعبه الذين اداروا ظهرهم له، وعبروا عن استيائهم من سياساته في استطلاعات رأي جعلته الاسوأ بين اقرانه منذ اكتشاف الولايات المتحدة.
فباستثناء مظاهرة غاضبة في غزة المحاصرة، واخري مقموعة في رام الله، وثالثة محدودة في المنامة عاصمة البحرين، حظي الرئيس الامريكي باستقبال الفاتحين، ورقصات العرضة التقليدية، والسجاد الاحمر، وباقات الزهور في المطارات، وهدايا وأوسمة وسيوف مذهبة، وفوق هذا وذاك عقود بصفقات اسلحة فاقت قيمتها عشرات المليارات من الدولارات.
فاذا كان تخريبه للعراق، وقتله مليونا ونصف المليون من ابنائه حتي الآن، وتشريده خمسة ملايين اخرين، وزرع فيروس الطائفية وحروبها الاهلية في تربته، وتحطيم طبقته الوسطي ومجتمعه المدني، واغتيال خيرة علمائه، وتشريع المستوطنات الكبري في الضفة الغربية، وتهميش دور الامم المتحدة في التسوية، وتكريس هوية اسرائيل اليهودية العنصرية في فلسطين، اذا كانت كل هذه المصائب جعلته يعامل كل هذه المعاملة المبالغ فيها، فكيف يا تري سيكون استقباله لو تجاوب مع عشر المطالب العربية في الضغط علي اسرائيل وتطبيق تسوية علي اساس قرارات الشرعية الدولية، واقامة عراق عصري مستقل نموذج في الديمقراطية والاستقرار وحقوق الانسان، وتصدير التكنولوجيا النووية الي العالم العربي لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل، ومحاربة الديكتاتورية القائمة لاطاحتها، واستبدالها بأنظمة ديمقراطية تحترم حريات التعبير وحقوق الانسان، وتكافح الفساد، وتؤمن بالفصل بين السلطات، وتعزز دور القضاء المستقل؟
لم يذهب الرئيس بوش الي اي مكان في العالم الا واستقبل بالمظاهرات الغاضبة، والبيض الفاسد، حتي في الدول الحليفة لبلاده مثل بريطانيا واستراليا، تطارده الهتافات التي تصفه بكل النعوت واقلها: ارحل انت مجرم حرب، يداك ملطختان بدماء الابرياء.
كين ليفنغستون عمدة لندن، رفض مصافحته ومسؤولون وسياسيون استراليون كبار قاطعوا المآدب التي اقيمت علي شرفه، ومحطات تلفزيونية عالمية خصصت البرامج المطولة لمناقشة سياساته الفاشلة التي صعدت من حدة الارهاب، وجعلت العالم اكثر اضطرابا وخطرا.
xxx
الزعماء العرب تباروا في الاصطفاف لاستقباله، مع حشد هائل من الوزراء وقادة القوات المسلحة والامن في المطارات هاشين باشين مرحبين ومعانقين، تساندهم صحافة لا تقل عنهم في الحفاوة وذكر مآثر الضيف العزيز.
الرئيس بوش اعاد تذكيرنا بالرئيس الراحل ياسر عرفات، عندما خرج عن التقاليد الغربية، واتبع سنته، وأخذ يقبل ويحتضن كل ملك وأمير ورئيس كان يتقدم مستقبليه عند سلم طائرته الرئاسية، وهي سنّة اعتقدنا انها انقرضت باستشهاد شيخها مسموما في احد المستشفيات الفرنسية.
مصدر دهشتنا ان رؤساء البروتوكولات الامريكان والاوروبيين كانوا يبلغون نظراءهم الفلسطينيين مسبقا بتنبيه الرئيس عرفات بعدم تقبيل او احتضان زعمائهم اثناء زيارته لعواصمهم. وسبحان مغير الاحوال، فمن اجل امتصاص العوائد النفطية الضخمة في صفقات عسكرية وتجارية، كل شيء قابل للمراجعة.
لا نستطيع ان نفرض علي الدول العربية عدم استقبال بوش، لاننا نعرف حقيقة معدن انظمتنا وضعفها تجاهه، ولكن ما نسمح لأنفسنا به هو ابداء استغرابنا تجاه هذه الاستقبالات المبالغ فيها التي تسيء الينا في اوساط شعوب عديدة من بينها الشعب الامريكي نفسه، لانها تظهرنا كما لو اننا امة سادية تستمتع بالحفاوة بجلاديها، ولا نعتقد اننا كذلك.
xxx
الرئيس الامريكي جاء الي المنطقة كمروج لبضاعة مسمومة، وبيعنا اطنانا من الاسلحة والعتاد الحربي التي لن تستخدم مثل نظيراتها، وان استخدمت فضد دول عربية او اسلامية مثلما كان عليه الحال في حربي العراق الاولي والثانية. فكلما توفرت فوائض مالية ضخمة عند العرب من عوائد النفط يأتي الامريكان بحروب وصفقات لامتصاصها، وانقاذ اقتصادياتهم المضعضعة.
اخطر ما في جعبة الرئيس الامريكي في جولته الحالية هو شيطنة ايران، وحشد العرب لمساندة حرب اسرائيلية ـ امريكية ضدها، فقد استغل زيارتيه للمملكة العربية السعودية والامارات لتوجيه اتهامات غير مسبوقة لها بالارهاب ودعم الارهابيين مثل حركتي حماس و حزب الله ، وتصويرها علي انها الخطر الاكبر الذي يهدد امن المنطقة واستقرارها، العبارات والتهديدات والاوصاف نفسها التي استخدمها لحشد العرب في الحرب ضد نظام العراق السابق.
انه يريد جر العرب الي حرب فاشلة اخري واغراقهم في حروب اقليمية ربما تستمر لعقود ضد جار غير مستعدين، بل وغير مؤهلين لمواجهته، فامريكا قد تسحب قواتها من المنطقة اذا ما تعرضت لخسائر كبيرة، ولكن اين يهرب العرب اذا ما بدأت الصواريخ الايرانية تتساقط عليهم كالمطر؟ هل سنراهم في شوارع لندن وباريس وبرلين والقاهرة مثلما فعل الكويتيون اثناء اجتياح القوات العراقية لبلادهم في مطلع العقد الماضي؟
xxx
كنا نتمني لو ان الزعماء العرب الذين عانقهم قد قالوا له ان بدء زيارته باسرائيل، واصراره علي يهودية دولتهم، وطرح آلية لتعويض اللاجئين بعد الغاء حقهم في العودة، وتدميره للعراق بعد خديعتهم بأكاذيبه حول اسلحة الدمار الشامل، وتسليمه لايران التي يريد الحرب عليها حاليا، جعلتهم لا يثقون وغير مستعدين لمشاركته في اي مغامرة عسكرية جديدة كارثية اخري.
لم نسمع زعيما عربيا واحدا يطالب بنزع اسلحة اسرائيل النووية، فقد صمتوا عليها باعتبارها لا تشكل اي خطر عليهم والمنطقة، لم نقرأ عن اقتراح واحد ببناء قوة ردع عربية نووية تحقق التوازن مع ايران واسرائيل معا، كبديل عن مشاريع الحرب التي لن يدفع ثمنها غير العرب انفسهم.
بقيت محطة واحدة في جولة بوش، وهي مصر، ولعل رئيسها يقول ما لم يقله قادة الدول الاخري في هذا الصدد، وان يخرج شعبها في مظاهرات اكبر تعيد شيئا من الكرامة للصورة العربية مجددا، وتعوضنا عن الاستقبال الحافل لرئيس امريكي اجرم في حقنا وقضايانا.
الشعب المصري وحكومته يجب ان يحتجا معا، علي الاقل ثأرا لكرامة مصر ومكانتها، حيث جعلها الرئيس آخر محطة في جولته، يتوقف في احد منتجعاتها (شرم الشيخ)، وليس عاصمتها، لاربع ساعات فقط، مما يعكس تراجع دورها وتأثيرها منذ ان قبلت بالاملاءات الامريكية، وتخلت عن قيادة الأمة."

No comments: