قطاع غزة: معركة المعبر أم المعارك
عزام التميمي
"ماذا يعني أن يصر محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، علي العودة إلي التفاهم المبرم مع الإسرائيليين بشأن إدارة معبر رفح، جازماً بأن المعبر ليس من شأن حماس التي وصف سلطتها في غزة بأنها غير شرعية؟
وماذا يمكن أن يستنتج المرء من تصريحه في القاهرة بأن الكلام مع حماس لا طائل منه ما لم تتراجع أولاً عما وصفه بالانقلاب؟ وبم يمكن أن نفسر إضافته إلي هذا الشرط المرفوض من معظم سكان قطاع غزة شرطين تعجيزين آخرين. أما الشرط الأول فهو أن تلتزم حماس بما أسماه الشرعية الدولية، ولا ريب أنه يقصد بذلك شروط الرباعية الثلاثة، وهي: الاعتراف بإسرائيل، والتسليم بما وقعته المنظمة أو السلطة مع إسرائيل من اتفاقيات، والتخلي عن المقاومة المسلحة. وأما الشرط الثاني فهو أن توافق حماس علي إجراء انتخابات مبكرة؟
لا معني لذلك إلا أن محمود عباس قد تمترس بشكل تام في الخندق الأمريكي ـ الإسرائيلي، وبأن أي أمل في استعادة ما بات يوصف بالوحدة الوطنية قد تبدد تماماً. أجزم بأنه لم يتفاجأ بهذا الموقف كثير من الفلسطينيين، فقد رأينا محمود عباس والفريق المحيط به منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية في كانون الثاني (يناير) 2006 ينسجمون بشكل متسارع مع المواقف الأمريكية والصهيونية إلي درجة التماهي، حتي غدوا اليوم ينافحون عن مطالب الرباعية، وهي اشتراطات إسرائيلية في الأساس، مصرين علي أن تعلن حماس التزامها بها، ويعربون بشكل صريح، بل وفج، عن مقتهم الشديد للمقاومة الفلسطينية بكل أشكالها وكافة مستوياتها، حتي ليهيأ للمرء بأنهم ربما صاروا أكثر مقتاً لها من الإسرائيليين أنفسهم.
شهدت في المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي انعقد في دمشق في الفترة من 23 إلي 25 كانون الثاني (يناير) 2008 حالة من الغليان إزاء هذه الظاهرة، وسمعت الكثير مما يقوله فلسطينيو الشتات، وخاصة من سكان مخيمات سورية ولبنان، بحق عباس وفياض، ولاحظت كغيري من المشاركين وجود رغبة عارمة لدي هؤلاء في أن يصدر عن المؤتمر موقف صارم حاسم يسقط الشرعية ليس فقط عن السلطة بقيادة عباس وحكومة رام الله برئاسة فياض، وإنما حتي عن منظمة التحرير التي لم يبق منها إلا الاسم، الذي بات كما يري هؤلاء سلاحاً يشهر في وجه كل معترض علي ما يجري من مهازل باسم الممثل الشرعي والوحيد. إلا أن قيادة حركة حماس ـ المنظم الأساسي للمؤتمر وصاحبة الوزن الثقيل فيه ـ لم تسمح للمؤتمر بالتوجه نحو ذلك الهدف، بل ظلت مصرة علي إبقاء الباب مفتوحاً علي إمكانية التفاهم والحوار مع قيادة السلطة والمنظمة وحركة فتح بلا شروط. وهذا ما وجه سهام النقد نحوها من قبل مجموعة غير قليلة من المشاركين في المؤتمر ممن سئموا تلك المراوحات، والمجاملات، والحسابات.
قادة حركة حماس لديهم ما يبرر موقفهم، فمن الناحية العملية ليس بإمكانهم خوض عشرات المعارك في آن واحد، وهم يصرون علي أن تظل المعركة الأساسية التي تشغلهم ـ ما وسعهم ذلك ـ هي معركة المقاومة ضد الاحتلال، ويعلمون أنهم الآن يخوضون معركة شرسة لرفع الحصار عن قطاع غزة، ولإخراج الحركة من العزلة التي تفرضها عليها المنظومة الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبتعاون إقليمي علي درجة عالية من الكفاءة والالتزام. ويدركون بأن أي إعلان بنزع الشرعية عن عباس أو عن منظمة التحرير، التي يحتفظ بها في درج مكتبه لحين الحاجة، إنما ستزيد الأمور تعقيداً، وتسعر نيران الحرب التي يشنها علي حماس الأعداء والخصوم من كل جانب.
أما بعد أن صرح عباس بما صرح به في القاهرة، وبعد أن خيب الآمال علي الأقل لدي شريحة من الشعب الفلسطيني في أن تؤذن هذه الرحلة إلي عاصمة أرض الكنانة من قبله ومن قبل وفد رفيع المستوي من حركة حماس ببدء حوار مسؤول وجاد لحل الإشكالات وللتوفيق بين المواقف ومن ثم لترتيب وضع معبر رفح، فليس من السهل علي قادة حركة حماس الاستمرار في مجاملته ومجاملة الساسة العرب المصرين علي أن يظل عباس رمزاً للشرعية الفلسطينية التي تذبح بيديه وبيدي رئيس وزرائه سلام فياض وبأيدي المتحدثين باسمهما الذين احترفوا تحريض الأوروبيين والأمريكان علي حماس، بل وعلي الشعب الفلسطيني الذي ارتكب في أعينهم جرماً لا يغتفر بإعطائه الثقة لحماس.
علي حركة حماس اليوم أن تكون حاسمة صارمة مع هؤلاء بنفس القدر الذي تكون فيه حاسمة وصارمة مع المحتلين الصهاينة ومن يساندهم أو يواليهم، لأن هؤلاء وأولئك أضحوا في خندق واحد، ديدنهم القضاء علي الحلم الفلسطيني بالعودة، وتجريد المقاومين من كافة الأسلحة، وتحويل الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع إلي مجموع بشري ذليل لا حول له ولا قوة ناهيك عن أن يتمتع بأدني درجات السيادة والاستقلال. وأول الحسم والصرامة اليوم هو الإصرار بلا هوادة علي أن معبر رفح معبر عربي لا سلطان للإسرائيليين عليه، وقد اندحروا من قبل وتقهقروا، وعلي أن العودة إلي التفاهم الذي كان أبرمه دحلان مع الصهاينة عام 2005 لا يمكن بحال أن يعود من جديد. إن معركة المعبر اليوم هي أم المعارك، وهي الأولي بكل جهد، وعلي الفلسطينيين في الداخل والخارج، ومن ورائهم شعوب العرب والمسلمين وأحرار العالم أن ينخرطوا في هذه المعركة إعلامياً وسياسياً، وإن لزم الأمر فليقيموا الدنيا ولا يقعدوها حتي يقتنع الحكام العرب بأن ثمة إرادة غير الإرادة الأمريكية الصهيونية، إنها إرادة المستضعفين والمقهورين، إرادة من ينشد الحرية ويرفض الذل والهوان.
علي حركة حماس، وينبغي أن يؤيدها في ذلك الرافضون للحصار والابتزاز، أن تكون صريحة مع صناع القرار السياسي في مصر، فأمن مصر القومي يحافظ عليه ليس بإعادة أهل غزة إلي معتقلهم، والضغط عليهم حتي ينفجروا في وجهها وفي وجه العالم، وإنما بالنأي بنفسها عن المشاركة في هذا الحصار، وبالامتناع عن قهرهم وظلمهم. ولن تنطلي علي أحد هذه الحملات الشعواء التي يشنها كتاب الأعمدة في الصحف الرسمية المملوكة للدولة في مصر، والذين يتزلفون من خلالها الرئيس وحاشيته، أو يوفون بها بما عليهم من دين لأرباب نعمتهم في واشنطن، فكسر الحصار لا يهدد أمن مصر، وما حدث من مناوشات علي الحدود في الأيام الأولي لتنسم أهل القطاع عبير الحرية ما كان ليحدث لولا أن أحمق في القاهرة أمر الجنود المصريين بالتعرض لأهل غزة العزل، ولم يكتف بذلك بل أهان أهل غزة بتهديهم بالكلاب البوليسية في مشهد يندي له جبين مصر العروبة والإسلام.
كما لا ينبغي علي حركة حماس أن تنخدع بما يردده المرجفون من أن انفتاح غزة علي مصر هو انسلاخ لغزة عن فلسطين، ولا بمزاعم البعض بأن هذا الإنسلاخ يرسخه التهديد الإسرائيلي بقطع كل أواصر الصلة مع غزة. ألا فليقطع الصهاينة أواصرهم جميعاً مع غزة، وليذهبوا إلي الجحيم، ولتلتئم كل الأواصر مع مصر الإخاء والجوار والشعب الواحد والمصير الواحد، ولتكن تلك هي فاتحة وأد سايكس بيكو إلي الأبد.
ہ مدير معهد الفكر السياسي الاسلامي في لندن
"
No comments:
Post a Comment